الأحد، 7 مارس 2021

الكلاسيكية الجديدة .. والنظرة الانتقائية لتراث الشعر العربى بقلم الشاعر والناقد / محمد علي عزب

 


الإحياء التراثى هو مرادف مصطلح "الكلاسكية الجديدة" والتى  تعنى السفر إلى الماضى واٍحياء التقاليد الأدبية القديمة, التى يرى فيها الاإحيائيون فردوسًا مفقودًا, وقد عرف الشعر الأوربى التوجه الاٍحيائى التراثى فى منتصف القرن السادس عشر الميلادى, حيث اتجه تيار من الشعراء اٍلى إٍحياء تقاليد الشعر اللاتينى والاٍغريقى, أما فى الأدب العربى فقد ظهر تيّار اٍحياء التراث "الكلاسيكية الجديدة" فى أواخر القرن التاسع عشر الميلادى, ومن أهم رواد هذا الإتجاه محمود سامى الباردوى وأحمد شوقى ومعروف الرصافى وحافظ إبراهيم .                                              

وقد أُطلق على التيار الإحيائى فى الشعر العربى مسمى "مدرسة الاٍحياء والبعث", وكان هذا التيّار جزءًا من حركة ثقافية تنويرية شاملة سُميت بحركة النهضة, والتى  كانت تدعوا إلى التمسك باللغة العربية الفصحى,  واٍحياء تراثها  الشعرى والأدبى  فى مواجهة  ثقافة المحتل الأوروبى,  ويؤخذ على حركة الاٍحياء التراثى للشعر العربى كما هو معروف أن ذوبانها فى التراث كان أكثر من ذوبان التراث فيها, بمعنى أن الشاعر الإحيائى لم يستلهم الشكل التراثى ويضخ فيه دماءً جديدًا على مستوى التشكيل اللغوى والأخيلة والمجازات, بل إنه اعتمد على الخيال الجزئى وجزالة اللفظ ورصانته, واستخدام نفس الأساليب الجمالية فمثلا يقول أحمد شوقى فى قصيدة "غربة وحنين" :                                                             

وسلا مصر هل سلا القلب عنها    

أو أسى جرحه الزمان المؤسِّى

والشاعر هنا يوجه خطابه للمثنى وهى عادة عربية قديمة انتهجها شعراء الجاهلية, حيث أن الشاعر كان يتخيّل وجود شخصين يمشيان بجواره, أحدهما يحمل له الطعام والآخر يحمل له الشراب, هذا اٍلى جانب المعارضات الشعرية ومجاراة الشعراء القدماء حيث يقوم الشاعر الإحيائى بنظم قصيدة على نفس وزن وقافية قصيدة لشاعر  عربي قديم كنوع من المجاراة مع الأسلاف واٍظهار البراعة والقدرة على النظم, وما أكثر هذه المعارضات الشعرية عند الشاعر الإحيائى أحمد شوقى, ومن أمثلة ذلك قصيدة "نهج البردة" التى يعارض ويجارى فيها أحمد شوقى قصيدة "البردة"  للإمام البوصيرى الذى عاش فى العصر المملوكى حيث يقول أحمد  شوقى فى مطلع القصيدة :                                                                        

ريم على القاع بين البان والعلمِ   

أحلَّ سفك دمى فى الأشهر الحرم

ويقول البوصيرى فى مطلع قصيدة "البردة" :

أمن تذكُّر جيران بذى سَلَمِ   

مزجت دمعا جرى من مقلة بدمِ

والطريف فى هذه المعارضة هى أن شوقى وأقرانه الذين رأوا أن العصر المملوكى عصر انحطاط شعرى هو نفسه الذى يعارض ويجارى شاعرا من العصر المملوكى ؟!

إن الكلاسيكية العربية الجديدة أو مدرسة الإحياء التراثى كانت ترى فى العصرين الأموى والعباسى, ومعهما العصر  الجاهلى فردوس الشعر العربى المفقود, ولذلك قفز الشاعر الإحيائى على العصر المملوكى والعصر العثمانى, ليتواصل مع شعراء العصور السابقة متفقًا فى ذلك مع المقولة التى تدعى بأن العصر المملوكى والعثمانى عصر انحطاط شعرى, وهذه المقولة لم تكن مبنية على دراسة ومعرفة موضوعية بالشعر فى العصرين العثمانى والمملوكى, ورغم أنها مقولة بلا أسانيد أو دراسات تدعمها اٍلاّ أنها انتشرت بين قطاع من الشعراء حتى يومنا هذا ؟! وليت أصحاب هذه المقولة يقرأون قصائد لشعراء من العصر المملوكى مثل جمال الدين بن نباته, وأبى الحسين الجزار, والسراج الوراق, والشهاب المنصورى, وصدر الدين الوكيل, وعلاء الدين بن مليك وغيرهم,  وكذلك يقرأون قصائد لشعراء من  العصر العثمانى مثل  عبد الله الشبرواى والشهاب الخفاجى وعبد الله الإدكاوى الخشاب وغيرهم, وساعتها سيكون الحكم موضوعيا بدلا من ترديد مقولات بلا أسانيد موضوعية مبنية على قراءة ومعرفة بشعر وشعراء هذين العصرين ـ المملوكى والعثمانى ـ الذى ظلمهم تاريخ الأدب العربى .                                                                       

وبناءً على ما سبق فاٍن مدرسة الإحياء التراثى فى الشعرى العربى من وجهة نظرى هى مدرسة تجزيئية, وانتقائية فى إحيائها  لتقاليد الشعر العربى القديم باٍسقاطها لعصرين من عصور الشعر العربى, دون العودة إلى معرفة المنجز الشعرى لهذين العصرين, وأود هنا أن أستشهد بمثالين شعريين من العصر المملوكى, المثال الأول منهما مقطع من قصيدة فى وصف الطبيعة المصرية للشهاب المنصورى :               

 إن جزتَ بالهرمين  قُلْ كم فيهما     

من  عبرةِ      للعاقل   المتأمّل

شبَّهت   كلا   منهما      بمسافرِ    

عرف المحل فبات دون  المنزلِ

أو عاشقيين وشى بهما   أبوالـ     

هول  الرقيب    فخلّفاه    بمعزلِ

أو حائرين اسْـتَهْديا  نجم السما     

فهداهما      بضيائهِ    المتهللِ

أو ظامئين استسقيا صوب الحيا     

فسقاهما    عذبا   روى المنهلِ

يفنى الزمان وفى   حشاه منهما   

غيظ الحسود وضجْرةِ  المستثقلِ )1                أ

أما المقطع الثانى من قصيدة عن الحنين للوطن للشاعر المصرى جمال الدين بن نباتة :

 ناعورة نشأتْ   على عهد الأسى      

مثلى  فما  تنفكُّ    ذات  توجّعِ

كانت  قضيبا  قبل    ذلك    يانعا      

فى أيكةٍ  نبتت باٍسرةِ   موضعِ

ناحَ  الحمامُ  بها  وأبكانى الأسى     

فتعلَّمَـتْ   نوحَ الحمام  وأدمعى )2 

وبالطبع لا أقصد بإيراد هذين المثاليين لأضئ بهما وجه الشعر فى العصر المملوكى, فربما يكون كل من ابن نباتة والشهاب المنصورى استثناء وتجربة فردية فى ذلك العصر, بل أن هذين المثاليين ـ بالطبع ـ لا يمكن أن نكتفى بهما للتدليل على شعرية ابن نباتة والشهاب المنصورى, لكنى أوردتهما هنا للإشارة , الإشارة فقط ومن يريد أن يستزيد فليبحث عن شعر العصرين المملوكى والعثمانى, ليرى هل الكلاسكية العربية الجديدة "مدرسة الإحياء والبعث" كانت انتقائية فى نظرتها لتراث الشعر العربى أم لا ؟! 

.....

محمد علي عزب

 

                                                                            

ــــــــــــــــــــــــــــتــــــــــــــــــــــــــتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1ـ جلال الدين السيوطى ـ حسن الحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة ـ تحقيق محمد أبو الفضل اٍبراهيم ـ دار اٍحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ 1967م ج 1 ص 83

2 ـ    ديوان جمال الدين بن نباتة ـ دار اٍحياء التراث العربى ـ بيروت ـ بدون تاريخ نشر . ص 315                                         

مقتطف من الفصل الأول من كتابى النقدى "مقاربة مفهومية فى مصطلحات شعرية معاصرة" ـ قيد الكتابة .

0 التعليقات:

إرسال تعليق