(1)
بين قصيدة العامية وقصيدة التفعيلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة
العامية وليدة شرطها الشعرى والجمالى والثقافى تبحث عن شعريتها فى لغة
الحياة اليومية بآليات ورؤى فنية خاصة بها، وتختلف بنيتها الموسيقية عن
البنية الموسيقية لقصيدة التفعيلة فى شعر الفصحى وكذلك تختلف العلاقة بينها
وبين الزجل عن العلاقة بين قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية فى شعر
الفصحى، حيث أن قصيدة التفعيلة قامت بتكسير البيت الشعرى فى القصيدة
العمودية الذى يتكون من عدد معيّن من تفعيلات البحر الشعرى الواحد
واستبدلته بالسطر الشعرى الذى لا يلتزم بذلك العدد وتركت مسألة استخدام
القافية لحرية الشاعر، وكما نظّرت لها نازك الملائكة فى كتابها " قضايا
الشعر المعاصر " تعتمد قصيدة التفعيلة فى بنائها الموسيقى على تكرار تفعيلة
من تفعيلات البحور الشعرية صافية التفعيلة التى تتكون من تفعيلة واحدة
تتكرر طوال القصيدة وهى الهزج والرجز والمتدارك والخبب والرمل والمتقارب
واعتبرت أن الوافر والكامل من البحور ممزوجة التفعيلات اٍضافة اٍلى بحر
السريع وأهملت باقى البحور الشعرية الممزوجة التفعيلات التى تتكون من أكثر
من تفعيلة مثل المجتث " مستفعلن فاعلاتن " والتزمت بالمحددات العروضية التى
تتعامل مع التفعيلة على أنها وحدة موسيقية تتكون من مجموعة من الحروف
المتحركة والساكنة، وأكدت نازك على قاعدة عروضية مهمة وهى عدم تنوع
التفعيلات فى القصيدة الوحدة حتى لا ينتقل الشاعر من تفعيلة بحر اٍلى
تفعيلة بحر آخر مما يؤدى اٍلى ضرب وحدة التفعيلة، بينما قصيدة العامية لا
تلتزم بذلك فلشعرائها حرية تحوير التفعيلة بالزيادة أو النقصان فى الحروف
الساكنة أو المتحركة دون الاٍلتزام بالمبررات العروضية المحددة لذلك نظرا
لاختلاف العامية عن الفصحى فى طبيعتها الموسيقية، وكثيرا ما لا تلتزم قصيدة
العامية باٍيقاع بحر شعرى محدد وتمزج بين تفعيلات متقاربة موسيقيا فى
القصيدة الواحدة، مع ملاحظة أن بعض شعراء قصيدة التفعيلة فى شعر الفصحى
خرجوا على وحدة التفعيلة و قاموا بالمزج بين التفعيلات فى القصيدة الواحدة
وكان هذا المزج مقنّنا فى الغالب فيرى د.عز الدين اسماعيل أن الاٍنتقال من
سطر شعرى مؤسس على تفعيلة اٍلى سطر مؤسس على تفعيلة أخرى اٍما يكون ( السطر
الجديد بداية لمقطع شعرى جديد أو أن يعبّر السطر الجديد عن انتقال فى
الموقف الشعرى، و اٍن لم يكن هذا و لا ذاك فيحتم أن يكون هناك علاقة تداخل
بين التفعيلة المستخدمة فى السطر الشعرى الأول والسطر الثانى الذى يليه على
أن يدخل فى اعتبار الشاعر استغلال هذه العلاقة فنيا )1 واٍن كان هذا المزج
المقنّن غالبا يمثل تجديدا فى قصيدة التفعيلة الفصحى بعد جيل الرواد ومع
ذلك ظلت القصيدة المعتمدة على وحدة التفعيلة أكثر تواجدا بين الشعراء، أمّا
فى قصيدة العامية فاٍن هذا المزج يمثل ظاهرة منتشرة فى منذ جيل الرواد
ومثالا لذلك يقول صلاح جاهين فى قصيدة " شاى بالحليب " وهى من قصائده
الأولى :
الزباين كلهم ع القهوه شكلى
يبقى بنت عيونها بحر من العسل
والشعور السود خصل .. م البريق
شعرك خشن زى الحرام الصوف يا بت
والشمس ثلج اصفر شعاعها صاروخ هوا
مجرّد اٍسم متشخبط على ورقه
فى
السطر الأول تتكرر تفعيلة " الرمل " فاعلاتن ثلاث مرات وفى السطر الثانى
تتكرر " فاعلاتن " مرتين وينتهى السطر بتفعيلة " فاعلن" ونهاية السطر بهذه
التفعيلة مقبول فى العروض، وفى السطر الثالث تتكرر" فاعلاتن " مرتين ،
وينتهى السطر بتفعيلة "فعول" وهذا لا يوجد فى قصيدة التفعيلة فى شعر
الفصحى، وفى السطر الرابع والخامس ينتقل الشاعر اٍلى تفعيلة " بحر الرجز "
"مستفعلن" وفى السطر الخامس ينتقل اٍِلى تفعيلة " بحر الوافر" " مفاعلتن "
التى تكررت ثلاث مرات، فى المرة الأولى و الثانية تم تسكين الحرف الرابع
المتحرك منها لتصبح " مفاعيلن ", انتقال الشاعر بهذا الشكل السلس بين
التفعيلات سواء اتفق مع ما يراه د. عزّ الدين اٍسماعيل أو لم يتفق يدل على
أن قصيدة العامية منذ جيل الرواد كانت أكثر مرونة وحرية من قصيدة التفعيلة
الفصحى فى التعامل مع مسألة الأوزن والموسيقى التى تأخذ مشروعيتها من
اٍحساس الشاعر بها، فهى نابعة من داخل التجربة الشعرية بشكل يخضع لضرورات
التجربة أكثر من خضوعه لضرورات العروض المتعارف عليها فى شعر الفصحى .
(2)
علاقة قصيدة العامية بالزجل
ـــــــــــــــــ
أمّا
عن علاقة قصيدة العامية الحديثة بالزجل فهى مختلفة تماما عن علاقة قصيدة
التفعيلة بالقصيدة العمودية فى شعر الفصحى، فاٍن كانت قصيدة العامية تختلف
فى بنائها عن قصيدة التفعيلة الفصحى فالزجل من الفنون السبعة التى خرجت على
بناء عمود الشعر ولم تلتزم بوحدة الوزن والقافية، و البناء الفنى للزجل
يشبه البناء الفنى للموشح اٍلى حد كبير حيث تتكون المنظومة الزجلية من عدة
مقطوعات، تسمى المقطوعة بيتا وتتكون كل مقطوعة من مجموعة أشطر بعضها يسمى
أغصانا وبعضها يسمى أقفالا تتغير أوزنها و قوافيها من مقطوعة اٍلى أخرى،
وهذا الشكل الفنى هو الذى يحدد هوية الزجل باعتباره نظما شعريا غرضيا يصاغ
بالعامية يلتحم بالواقع ويعالج القضايا السياسية والاٍجتماعية من منظور
نقدى لا يقوم على نقل الأحداث كما هى و لكنه يعيد بناءها حسب الرؤية الفنية
للزجّال ويعتمد بشكل أساسى على المفردات اللغوية الرشيقة والمفارقات
"القفشات " الطريفة، ويختلف الزجل فى بنائه وفى خصائصه الفنية وأهدافه عن
قصيدة العامية حيث أن الزجل فن غرضى يعالج قضية محددة ومن ناحية ذلك فاٍن
كل الفنون والآداب لا بد أن يكون لديها ما تقوله، ولكن القضية المعالجة
تكون أكثر تحديدا وبروزا فى الزجل كما فى فن الجرافيت أو فن الكاريكاتير،
أمّا قصيدة العامية فتسعى اٍلى نقل حالة من التوتر الشعرى للمتلقى
عبرالمفردات والتراكيب والصور، وتعد رفدا من روافد حركة التجديد الشعرى
التى تبلورت فى خمسينات القرن العشرين حيث قام د.غالى شكرى فى مقاله "
شعرنا الحديث اٍلى أين ؟ " بمجلة حوار نوفمبر 1965م يتصنيف الشعر العربى (
اٍلى أربعة تيارات رابعهم التيار الثورى يقوده جناحان الجناح الأول هو
الشعر الذى كتبه السيّاب فى أواخر حياته والذى كتبه خليل حاوى و صلاح عبد
الصبور ومحمد عفيفى مطر وأدونيس والجناح الثانى يقوده فؤاد حداد وصلاح
جاهين و غيرهما فى القاهرة وسعيد عقل وميشيل طراد وغيرهما فى بيروت )3 .
والواقع
أن الفنون الشعرية غير المعربة " العامية " فى أصل نشأتها كانت وليدة حركة
تجديد فى الشعر العربى فعندما ظهر الموشح الذى خرج على عمود الشعر نسج أهل
الأندلس على منواله بالعامية فنا سموه الزجل، وكذلك فن المواليا ابتكره
أهل واسط فى العصر العباسى وصاغوه بالفصحى ثم أخذه عنهم أهل بغداد وصاغوه
بالعامية فنسب لهم وهم ليسوا بمخترعيه وكذلك المربعات الشعرية والدوبيت،
واٍذا افترضنا أن قصيدة العامية قامت بتحطيم الشكل الفنى للزجل وأسست على
أنقاضه شكلا خاصا بها كما فعلت قصيدة التفعيلة بالقصيدة العمودية فى شعر
الفصحى فعلى أى أساس تمت عميلة هدم شكل وبناء شكل جديد ؟ والأوزان تتغير فى
الزجل الواحد من مقطوعة اٍلى أخرى وكذلك قصيدة العامية لها الحرية فى أن
لا تلتزم بتفعيلة محدّدة، والواقع أن قصيدة العامية لم تخرج من رحم الزجل
أو غيره من الفنون الشعرية الغير معربة " العامية " السابقة عليها، ولا
يعنى ذلك أنها منقطعة الصلة بهذه الفنون بل هى وليدة تجربة شعرية تفاعلت مع
تراث المواويل والزجل والبلّيق والدوبيت دون أن تتقولب فى أشكالها الفنية
أو تطور هذه الأشكال أو تتبنى أغراضها وفى نفس الوقت انفتحت على أفاق الشعر
الحداثى واختارت لنفسها شكلا فنيا أقرب اٍلى الشعر الحر بعيدا مفهوم جبرا
اٍبراهيم جبرا للشعر الحر على أنه الخالى من الوزن، وبعيدا عن مفهوم نازك
الملائكة للشعر الحر على أنه على شعر التفعيلة الذى تلتزم فيه القصيدة
باٍيقاع تفعيلة بحر شعرى معيّن من التفعيلات التى حدّدتها نازك فى كتابها
قضايا الشعر المعاصر، وانحازت قصيدة العامية منذ نشأتها لاٍمكانية المزج
بين التفعيلات المتقاربة حسب ما تتطلبه الضرورة الفنية .
مقتطف
ممن الفصل الأول من كتابى النقدى "عن تحولات الشعر العامي بين التراث
والمعاصرة" الصادر سنة 2014م عن الهيئة العامة لقصور الثقافة
0 التعليقات:
إرسال تعليق