من منكم لا يعرف راشدا الشبولى؟ أو- علي الأقل - لم يسمع عن أفعاله التى ملأت البلدة ضجيجا، بل الكون كله؟ حتى أننا - نحن المحسودين على مرافقته - لن نتعجب إذا ما استشهد بأفعاله تلك أصحاب الفخامة والسمو، أو إذا ما استوحى منها الأدباء قصصهم ورواياتهم، إلا أن ما حدث مؤخرا شئ لا يمكن تصديقه. ولولا رؤيتي لما حدث بعيني هاتين لما أمكنني التصديق، خصوصا أننى عشت معه تفاصيل الحكاية منذ بدايتها: لحظة بلحظة، ويوما بيوم، وسنة بسنة. ولطالما اختلفت معه، واتفقت، وارتحت وتعبت، وحينما كانت الدنيا تضيق علينا - نحن العاديين - يكون راشد أكثر تفاؤلا من أجدعها كمسارى فى قاهرة المعز، حيث يرى باستمرار مكانا فارغا فى منتصف الأوتوبيس. ورغم أن بداية حكايته لم تكن أكثر من لعبة، إلا أنه لعبها بحرفنة. وقتها كنا ـ أنا وهوـ قد أنهينا دراستنا الثانوية، وعرفنا من جوابى التنسيق أننا دخلنا نفس الكلية، فتوثقت صداقتنا. ووقتها كان أخواه يبيعان ميراثهما: أحدهما ليسافر، والثاني ليبدأ مشروعا، بينما قرر الشبولى الصغير أن يشترى سيارة ، نفس نوع سيارة نائبنا فى البرلمان، ولأن ميراثه لم يكن كافيا؛ لجأ إلى المنطق؛ فأقنع صاحب المعرض بقبول ما معه، على أن يسلمه سيارة جديدة بعد سنواته الدراسية الأربع، وهكذا كان راشد يتعامل مع المواصلات العامة المقرفة بحب ،على أساس أنه يودعها، وكثيرا ما ضحى بشراء ملزمة لاقتناء مجلة سيارات. وكثيرا ما كنت أرحب بإعارته كتبى ،كما كان يرحب بإعارتى تفاؤله، حتى أنه فى لحظة تجل من تجلياته ـ ولا تضحكوا أرجوكم ـ أقنعنى أننى كاتب قصة ملهم.
وذات يوم ونحن محشورون بين حقيبتين فوق شبكة قطار مزدحم جدا قال:
- تعرف انا نفسى فى إيه؟
فقلت:
- فى إيه؟
وقبل أن يجيبنى تأمل الناس، وشرد قليلا، ثم قال:
- مش مهم، مش مهم.
أيامها لم يكن مسموحا لنا بتدلية أرجلنا ،حتى لا تلامس أيا من الرؤوس أسفلنا، ولم يكن مسموحا لنا بحركة غير محسوبة قد تسقط إحدى الحقيبتين اللتين تحاصرانا. وهكذا مضت سنواتنا الجامعية، وحانت اللحظة التى انتظرناها طويلا، والتى باقترابها كانت قلوبنا ترتج بشدة، تحسبا لمكر صاحب المعرض، لكنه بحق كان فى غاية الأمانة والظرف، وما هى إلا دقائق أمضيناها فى التهانى واختيار اللون والذى منه، ليصبح بعدها راشد ابن مبروك الشبولى- بقدرة قادر - من ذوى السيارات الفخمة، بل وأصبحت له وضعية فى القيادة ذات رونق، أظنكم ستدركون مثلى ممن اقتبسها، الشئ الوحيد الذى كان ينقصها لتحمل حصانة واضعها هو نظارة النائب الطبية، بينما بقية تفاصيل الوضعية هى هى: إسناد الكوع على الباب هو هو، التحريك المستمر للمرآة هو هو، الفرملة المفاجئة هى هى، حتى النزول المتعجل بعد الفرملة هو هو، مما دفعنى إلى الصياح بقليل من الحدة:
- على فين يا راشد؟
ليجيبني وكل ملمح من ملامحه متمسك بالجدية:
- هاشترى شوية جرايد.
فقلت فى نفسى:
- عجايب؟
ورأيته يقرأ عناوين الجريدة من هؤلاء، وينحيها جانبا، ثم وهو يفعل الشئ نفسه مع جريدة أخرى، حتى تكوم أمامه عدد ضخم من الجرائد،وبسهولة دفع الشبولى ثمنه، وبدأ يخطو ناحيتى متهلل الوجه. وفى تلك اللحظة تحديدا كان ثمة شئ يحدث ،شئ مريب، دخان كثيف بدأ يتصاعد من شنطة السيارة،ومن لمبة السقف،والتابلوه،والأكر؛ فغادرتها منزعجا، و حدث أن ارتجت بعد ذلك بعنف، وبدأ صاجها ينبعج، وينضغط، محدثا مع كل انبعاجة وانضغاطة صوتا مدويا، فجريت ناحية راشد، وإذ بالسيارة تتحول وسط الدخان إلى حمامة بيضاء، لها جناحان عملاقان، ودعت بأحدهما الشبولى، ثم رفرفت صاعدة للسماء. والغريب حقا أن راشدا، حتى بعد اختفاء حمامته ظل متهلل الوجه وهو يلوح لها ببراءة غير محدودة.
........
يسرى عبد السلام صبرى
نادي أدب كفر شكر
0 التعليقات:
إرسال تعليق