الأحد، 2 سبتمبر 2018

المراكبي ..قصة قصيرة بقلم الأديب صلاح عطية




      
 -  ورثناها عن جدنا محمد المراكبي الكبير .
      
 قالها محمد الشافعي وهو يضحك من القلب ، مستنكرا خيال محدثه 

التاجر  عندما تصور انهم صنعوا المركب الشراعية بأنفسهم وأكمل :

         - داحنا بندوخ دلوقتى على " الفطى"* لما يحصلها تسريب 

أو تنخرم ..وما بنلاقيش .وعاود ضحكاته ..
      
      كانت كمية الأجولة التي اشترك الرجال الستة في إنزالها من 

القارب كافية لإخفائه  واخوته الثلاثة الحسيني الشافعي ، الاباصيرى 

وأبو المعاطى الأخرس ، أصواتهم تأتى من خلف أكوام زكائب البلح 

المجلوبة من صعيد البلاد خصيصا لشهر الصوم القادم ، جلسوا 

جميعا يتنسمون راحة بعد عناء رحلة طويلة وينظرون بعيون ضعيفة 

إلى البيوت الواطئة على البعد ، حولهم جلس أربعة تجار جاءوا منذ 

الصباح منتظرين وصولهم ، بينما كان الريس أنيس الذي يعمل على 

المركب يقلب النار أمامه كي يصنع لهم الشاي .    

 قال الحسيني :
           - خيطوا الزكائب المفتوحة ؟ 
   رد أنيس العجوز وهو مشغول بفتح مجمع الشاي بعد أن وضع 

كمية السكر في البراد قبل أن يغلى : 
            - بيخيطها متولي ياريس حسيني .
      كانت المركب قد قطعت ستة عشر يوما مبحرة مع التيار متجه

إلى شمال البلاد ، محملة بالبلح الابريمى كسلعة أساسية وبعض 

اجولة الشطة السوداني والكسبرة .كان الحسيني الذي يتابع الأخبار

 من مذياع صغير يحمله معه دوما ، قد أمر الرجال أن يتركوا بعض

 الاجوله مفتوحة بحيث يظهر منها البلح واضحا ، فالنجوم الصناعية 

المدسوسة بين نجوم السماء يمكنها أن تصور أي شئ ، وربما 

تتهمهم بنقل أسلحة أو ممنوعات وقال إن المصيبة أنها ليست نجوم 

مصرية ، المصيبة إنها غريبة ، أمريكان ، يهود .. واصبح عرفا أن

يترك الرجال بعض الزكائب مفتوحة بشكل واضح متناثرة بين الاجولة

 الأخرى .
      رشف محمد الشافعي من كوبه واكمل : 
           - محمد المراكبي الكبير كان عنده سبعة مراكب .
 قالها بهدوء ثم صمت قليلا ، كانت موجة من حزن شفيف قد لفحته ،

 فلم يعد يملكون غير واحدة . تبدوا لمن يراها قديمة ، وكانوا يدركون

 أن يوما ما سيقومون من نومهم فيجدونها في قاع النيل ، ودوما 

يشكرون الله لمنحها معجزة الاستمرار في رحلاتها تلك . من بحري

 إلى صعيد البلاد عبر النيل تحمل الأرز والذرة ، تقضى أسبوعان في

 الطريق وتعود بالبلح والكسبرة ، عند الجيزة ترسو مرة ، ومرة في 

المنيا وتكمل طريقها ضد النهر إلى الصعيد ، "رحلة الشقا"، وفي 

رحلة العودة "رحلة ألهنا" تكون زلع العسل الهدية والعجوة فاكهتنا 

على المركب ، هيييييه .. أيام . 
       تنهد وراحت تداعب خياله أيام ولت ، تشعل في صدره حرارة 

خابية ، له خمسة أيام الآن يعاوده حلم يتكرر ، يرى المركب تشق

 الموج بعنف شديد ، تنحرف فجأة وترسو عند الشاطئ ويبدأ رجال

 خواجات ينزلون إليها ، يفرغون الأجولة في استهانة وقسوة ،

 يمسكون الحسيني من قفاه ، يرمونه إلى الأرض ويدوسون بأحذيتهم 

الثقيلة رقبته ، يصرخ ، عندها يستيقظ من حلمه ، دوما يذهب ليرى 

الحسيني فيجده فوق دفة المركب ، بيده مذياعه مستغرقا في سماع 

الأخبار .
   يلح لصوت المستفسر عن المراكب السبعة التي انقرضت ، وعن 

الأخرس الذي يظل لساعات طويلة يجدل الحبال ، لم يعره انتباه ، 

وراح يحكى من عمق سحيق :
            - كنا نقضى الليل بلا نوم . 
   يروح يشير بأصابعه المعروقة إلى البيوت البعيدة المرمية في

 حضن طرح البحر ، بحر النيل ، ترقد تحت قيلولة يومهم في هدوء ، 

يمكن للمدقق أن يرى كل البيوت المتناثرة عند مرمى البصر ، بعدها 

تمتد مساحة خضراء حتى الطريق السريع المؤدى إلى مصر..   يقول 

وتعاوده ضحكته :
           - كان جدي الكبير من وقوفنا في الجيزة ، يقول أن مصر بها

 لصوص ونحن طيبون ، وان بها فقراء شحاذون ، ونحن طيبون ،

 كان يخاف أن نضعف فيسرقونا أو نضعف فنتصدق بما معنا .
     يضحك بفم مستنكر أفعال جدة ، يقول أن بها نصارى اتباع عيسى

 يعيشون مع المسلمين ، يأكلون معا ، ويعملون معا ، ويسكنون بدار

 واحدة ، يقول إنها بلد العجب . ولما سمع أن بها محلا لرجل من

 اتباع موسى ، استنكر :
                     - أعوذ بالله .. معقول لسه في حد على ملة موسى .
     تتزاحم الصور .. والتاجر اللحوح يسأل : 
                     - وبقية المراكب يا ريس محمد ، راحت فين .
   تتزاحم الصور .. ويكمل :
                     - كنا بنأكل سمك وجبنه قديمة في رحلة الشقا ، أما

 في رحلة الهنا كنا نأكل العسل والعجوة ونستريح شويه من السمك ،

 أيام .
       الرجال على وشك الانتهاء من إنزال كل ما بالقارب ، وقد 

رصوا الأجولة كاملة ، جاء أحد الرجال بجوال فارغ وراح يلم ما 

سقط بأرض المركب ، راح يردد : 
           - ما شاء الله ، ما شاء الله .
  كان يعرف أنها من نصيبه مهما كانت كميتها ، حملها على كتفه 

وبدا يهبط من فوق العروق المسنودة على أرضية الشاطئ ، مر 

بالحاج محمد ، ابتسم ثم مر بالحسين فابتسم ، قال له بالاباصيرى 

عندما مر به :
         - روح ربنا يبارك لك ، ابن حلال والله .
    تنهد الرجال جميعا ، هم الحسيني ، تقدم التجار الأربعة ، وبدأ 

يشير إلى الأجولة التي ستكون من نصيب كل منهم ، نفض جلبابه ، 

صفق بيده مرتين إلى "أبو المعاطى " الأخرس ،لم ينتبه ، لوح 

باتجاهه بيدين مدربتين فقام ، بعد أن أزاح ألا حبال جانبا ، نظروا 

جميعا إلى هناك ، كانت البيوت نائمة في هدوء القيلولة ، والطريق 

إلى هناك ما يزال خاليا وممهدا ووديعا ، ولم تكن فوق رؤوسهم أي

 نجوم تزعج مودتهم ، وبدءوا يهبطون .  

............
                                                                                                                                                      
 صلاح عطية
----------------------------------------------
* الفطى : صانع المراكب وخاصة منهم الذي يقوم بترميمها واصلاح عيوبه .

0 التعليقات:

إرسال تعليق