الأحد، 2 سبتمبر 2018

المحاضرة الأخيرة ..قصة قصيرة بقلم الأديب / صلاح عطية



      مد يده في جيب بدلته الزرقاء الغامقة ذو الخطوط الرمادية 


، اخرج منديلا قماشيا ودون أن يفرده مسح جبينه بهدوء مميت 

، العيون التي تعلقت بالمنصة ، صوبت نظراتها إلى حركاته 

البطيئة ، بدأ معه ملل يتسرب بخفي إلى الصدور، تنهد البعض 

والبعض الآخر راح يمد يده بدوره ليمسح العرق محاكيا فعل 

الأستاذ في يوم مايو الرهيب.

      كانت المحاضرة الأخيرة وقد استعد الطلاب لها منذ اشهر 

مضت ،آملين  إن تكون الفاصلة لهذا اللغط الكثير في المادة 

العلمية هذه ، دار الحوار وانتهي دوما بالجملة تلك . وقد 

انتظرها الطلاب طويلا ، متيقنين أن الأستاذ سيقوم بحذف ثلاثة 

أرباع المنهج - وتلك عادته -  رغم انه بذل في سبيل توضيحها 

جهدا مضاعفا ، نظرا لصعوبة المادة ولمتغيرات العالم ، ف 

"اقتصاديات السوق" تحمل من النظريات المتباينة والآراء 

المتضادة اكثر مما تحمل  الأنظمة الاقتصادية ذاتها في عالم 

اليوم . 

       كان الطلاب قد اصطفوا  في مقاعدهم في دعة وترقب منذ 

ساعة تقريبا ، انتظارهم مشوب بتوتر ، رغم محاولاتهم الدائبة 

لتغليف حركاتهم برزانة لا تليق ، وأهمية مفتعلة ، الفتيات منهم 

فتحن" أجنداتهن " على صفحات بيضاء نقية ، أرهفن كل 

حواسهن لما سيقوله الأستاذ ، والطلاب ذو الشعور المغسولة 

والنظارات المزيفة راحو يصغوا - على غير عادة لكل كلمة ، 

 بعضهم وضع ورقة صغيرة أمامه وقلم معد للكتابة ، والذين 

اظهروا استهانة بالأوراق جاهدوا بالتركيز حتى لا يفوتهم ما 

يقال .
     
 استطالت فترة الصمت وكان بإمكان المرء أن يسمع أصوات 

تنفسهم ، في اللحظة تلك راح كعب حذائها العالي يدق بلاط 

درجات السلم ، التفت الجميع إليها ،فكانت هي . هي نفسها 

البنت التي تساءل معظم الطلاب عنها كثيرا من قبل ، فطولها 

الفارع وجسدها المتماسك في تناسق ، وحركاتها الرشيقة بل 

وخطواتها الراسخة الواثقة شدت إليها أنظار الطلاب والطالبات 

أيضا منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه المدرج ، ظنوا يومها أنها 

زائرة ، فقد انقضى على بداية العام اكثر من شهر ولم يرونها ، 

وعندما طالعتهم للمرة الثنية بعد اكثر من ثلاثة أسابيع أدركوا 

لحظتها أنها زميلة ، قال البعض أنها ابنة وزير ، والبعض أكد 

أن والدها مدير لاحد البنوك وأنها لا يهمها المحاضرات ، سوف 

تنجح ، وسوف تعمل بالبنك ،وربما رأيناها مديرة بنك ثم وزيرة 

، لم لا ؟ .. ضحكوا من خيال جامح لكنه غير رافض لفكرة لا 

يحوزها كي تتحقق شئ ، أكد البعض أيضا انهم رأوها في مكتب 

هيئة التدريس وان الأساتذة يعرفونها ، بعضهم كان يحادثها 

ولمرات كثيرة ولم يكن غيرهما بالمكتب ، أكد البعض أن أستاذ 

" اقتصاديات السوق " قد نهض من مكتبة وهو يستقبلها حتى 

جلست ، وأثناء حوارهما لم تغادر الابتسامة شفتيه ، وقد زالت 

لحظتها هيبته وجديته التى ترعبهم أثناء المحاضرة ، قيل الكثير 

ولم ينتهي القول .
      
    كانت خطواتها التي دقت ارض المدرج ، ثابتة ، حسدتها 

عليها كل البنات بالمدرج ، بالغ الأستاذ في مسح عرقه ، وكان 

واضحا انه أعطى لخطواتها فرصة كي تتواري ، ابتسم ولم 

يعقب ، وقد أصغى لوقع أقدامها المنغم ، كانت تخطو فينسدل 

شعرها الناعم ، داكن السمرة فوق كتفيها ، مخفيا كثيرا من 

جانبي وجهها لأنها كانت تنظر إلى الأرض كي تتفادى الجالسين 

على جانبي السلم وخشية أن يتعثر كعب حذائها الرفيع بأوراق 

الجرائد التي فرشت للجلوس فوقها ، وجهها الذي غزته حمرة 

بفعل مايو الرهيب ، كان ضيفا في أحلام كثير من الطلاب 

وخيالات يقظة لأكثر الذين تحدثوا عنها .

      انتهى الأستاذ من مسح عرقه ، عندما جلست ، بعد أن 

أفسح لها معظم الذين جلسوا على أطراف المقاعد مكانا، 

جلست  إلى جوار طالبة متواضعة في الملبس ودرجة الجمال ، 

دق الأستاذ بيده على المكتب منبها الطلاب إليه ، تم اكمل :
                  
 - هكذا نكون قد انتهينا من أهم فصول المنهج .
         
    بدأ بعدها يقلب أوراقه وكان واضحا انه ألغى كلاما قد أعده 

سلفا ، ثلاثة صفوف لم تنتبه لكلماته حيث غمرها عبير رائحة 

البرفان الوحشية التي أربكت المكان وبات التخلص منها 

مستحيلا ، فالعيون التي صوبت إليها كانت مصدر قلق للأستاذ 

الذي ولأول مرة منذ بدأ محاضرته يدق على مكتبه للمرة الثانية 

كي ينتبهوا . 

     كان قد استعرض منذ بدا في عجالة مملة أهم ما تم دراسته 

دون انتباه كثير من طلابه، ولأن القاعة التي كانت تعج بالطلاب 

الذين لكثرتهم افترشوا  أوراق جرائد على درجات السلم ، 

والبعض جلس على حافة النوافذ الواطئة وراح معظمهم يجلب 

الهواء بأوراق مطوية كمراوح ورقية تحارب حر الصيف . 

     بينما القاعة تعود للهدوء ، والأستاذ  يقلب أوراقه انتهى 

بقوله : 
              -  يتبقى فصل أخير ، عليكم قراءته . لن يكون موضع اهتمام كبير .
وأضاف بهدوء :
             -  أتمنى لكم  عام سعيد ، وكل عام وانتم بخير.
     نهض وراح يفتح حقيبته الجلدية ، ويدخل أوراقه داخلها ، هاج المدرج وماج ، وسمع لغط كثير ينتشر في جنبات المكان ، كانت الأصوات تتردد في توسل وتذكير وأمل يتخللها أصوات تطالب : 
              - الأسئلة يا دكتور : المحذوف يا دكتور  ، المحذوف .. المهم..
         
     جمع  أوراقه التي أعدها ليلته السابقة  والمسجل  بها 

أفكاره التي  سيتناولها في محاضرته هذه ، جنب ثلاثة أوراق  

كشف سير المحاضرة عن تفاهتها ، إلا أن ذلك لم يعنى مطلقا  

أن يتركها ، وضعها جمعها في حقيبته الجلدية ، وبينما كانت 

الأصوات المتعالية والمطالبة في استجداء أخير تغطى القاعة 

ولا يمكن إلا أن يكون قد سمعها وتجاهلها ، كانت خطواته ثابتة 

تقطع المسرح  المفروش  بممشاة من الموكيت الأزرق إلى سلم 

جانبي ، واختفى  وسط حشد الطلاب المتجمهرين عند الباب 

هناك ، كان الحشد يبدو عليه رغبة في سد الطريق أمامه ، 

وهذا لم يحدث بالطبع .
      
     وسط هذا الهدير من الأصوات كانت الأجساد تفسح الطريق 

لها كي تهبط ، ثم تصعد المسرح فتتبع خطوات الأستاذ الذي 

اختفى خارجا من الباب ، لكنها وسط الحشد توقفت ، وكان 

وجهها خاليا من أي تعبير ، كانت ترفع شعرها الذي ينسدل 

بمجرد أن ترفعه عن وجهها وبدا عليها أنها تنتظر أن ينفرج 

الحشد كي تختفي .  
    
     حالة الذهول والدهشة ألجمت الكثير ، بات الأمر حقيقة 

مفزعة ، مزق الطلاب الأوراق التي أمامهم ، والطالبات – 

الرقيقات منهن خاصة – أغلقن "   أجنداتهن"  بهدوء  شديد 

واسندن رؤوسهن بأكفهن المتعبة ورحن  ينظرن لبعضهن غير 

مصدقات . 

     الهمهمة التي سادت راحت تخبوا حتى ساد صمت قطعه 

اكثر الطلاب جرأة عندما لعن بصوت متردد التعليم ، كانت عيناه 

متجهتين إليها بالذات ، محاولة أن تكتشف مدى تعاطفها مع 

أفكاره ، في هدوء انسحبت الفتيات المحجبات من القاعة وقد 

عقدن ما بين عيونهن والقين بكلمات من قبيل :  
                        - حسبنا الله ونعم الوكيل .

     وبدأ لغط مع خطواتهن المرتبكة ،و ببطء وكأنه " كريشندو 

"  موسيقى  ، ارتفعت الأصوات وجاء الصوت الواضح كأنه 

لغريق على وشك الغوص تحت الماء :

                         -   ربنا ينتقم منكم . 

      عيناه كانتا مصوبتين ناحيتها بالذات .

   ورد آخر من الطرف ململما أطراف شجاعته :

                         -  ربنا  ينتقم منك .

      صمتت القاعة فجأة ، تلفتت العيون إلى مصدر الصوت 

للحظة ، ولم يحدث شئ .

.........

 صلاح عطية

                                                          



0 التعليقات:

إرسال تعليق