الثلاثاء، 16 مارس 2021

مصطلحات ومفاهيم جـ 3 بقلم الشاعر الناقد / محمد علي عزب


11) القناع الشعري

عندما يستحضر الشاعر شخصية تاريخية أو معاصرة  ويجعلها رمزا شعريا فاٍن هذه الشخصية / الرمز تكتسب اٍيحاءات جديدة وفقا لتوظيفها فى سياق النصّ الشعرىK وتظل مستقلة عن ذات الشاعر لا يتحدث بلسانها أو يتقمّّص دورها، أما فى تقنية القناع فاٍن الشاعر يتقمّص دور شخصية تاريخية أو معاصرة تتماس معه فى موقف شعورى ما، ونتيجة لهذا التماس تظهر ذات شعرية جديدة تتحدث فى القصيدة بضمير المتكلم، فالشاعر واٍن تحدث على لسان تلك الشخصية فاٍنه يتحدث وفقا لرؤيته ووعيه، وبذلك يعتبر القناع شكل غير مباشر من أشكال التعبير عن الذات المتماسة مع شخصية تراثية أو معاصرة فى موقف ما, والقناع كمصطلح وتقنية شعرية تأسس على يد الشعراء الإنجليز فى مطلع القرن العشرين, وعرف الشعر العربى تقنية القناع منذ ستينات القرن العشري والشاعر عبد الوهاب البياتى من أوائل الشعراء العرب الذين  تحدثوا عن القناع الشعرى فى كتابه "تجربتى الشعرية" حيث قال أن : ( القناع هو الإسم الذى يتحدث به الشاعر نفسه متجردا من ذاتيته، أى أن الشاعر يعمد  اٍلى خلق وجود مستقل عن  ذاته,، وبذلك يبتعد عن الغنائية والرومانسية وهو وسيلة للخلق الفنى عند الشاعر)1, وكان استعمال القناع الشعرى عند البياتى ( للتعبير عن المحنة الإجتماعية والثورة والتمرد )2 .

ومن الأمثلة التى يمكن نفرق فيها بين الرمز والقناع فى شعرنا العربى الحديث والمعاصر استحضار شخصية "كافور الإخشيدى" كرمز تراثى واستحضار شخصية الشاعر العربى الكبير "المتنبى" وتحويلها اٍلى قناع شعرى، وذلك فى قصيدة "من مذكرات المتنبِّى فى مصر" للشاعر أمل دنقل الذى قال   فى تلك   القصيدة على لسان المتنبّى / القناع  :

أكره  لون الخمر فى القنّينة

لكننى أدمنتها استشفاءا

لأننى منذ أتيت هذه المدينة

وصرت فى القصور ببغاءا :

عرفت فيها الداءا

أمثلُ ساعة الضحى بين يدى كافورْ

ليطمئن  قلبه فما يزال طيره المأسورْ

لا يترك السجن ولا يطيرْ

أبصر تلك الشفّة المثقوبة

ووجهة المسودّ والرجولة المسلوبة

أبكى على العروبة (3) .

( صوت الذات هنا ليس صوت " المتنبى" أو صوت الشاعر أمل دنقل بل هو صوت القناع الشعرى  مزيج من صوت " المتنبى" وصوت الشاعر  أمل دنقل فى موقف ما، وقد اختار الشاعر أمل دنقل شخصية "المتنبى" لأنه كان قريبا من الولاة والحكام فى العصر العباسى، مدح بعضهم وهجا بعضهم فى شعره،  و" كافور" هنا هو رمز للحكام العرب المعاصرين الذين يوجَّهون وسائل الإعلام و الشعراء والفنانين المقربين منهم للتعنّى بأمجاهم الزائفة )4                                                  

 

-------------------------------------------------------------------

1 ـ  عبد الوهاب البياتى ـ تجربتى الشعرية  ـ منشورات نزار قبانى ـ بيروت 1968م ط1 ص 35

2ـ المصدر السابق ص 35

3ـ أنظر  أمل دنقل ـ  الأعمال الكاملة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1983م

4ـ محمد على عزب ـ أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة ـ دار العماد للنشر والتوزيع مصر 2014م  ص 26

...........

12) التداعي في الشعر

التداعى  لغة : هو التنادى  فالإنسان يتنادى باللغة المتعارف عليها بين أبناء المجتمع اللغوى، والحيوانات والطيور تتنادى بأصوات معينة متعارف عليها عند هذا الجنس أو ذاك، وقد يكون التداعى بالإشارة مثل تعبيرات الوجه واٍشارة العين وحركة اليدين، والتداعى اصطلاحا فى الشعر والأدب يشير اٍلى تنادى واستدعاء الوحدات اللغوية والأسلوبية والصوتية المتشابهة لبعضها البعض فى النص الشعرى،  مما يؤدى اٍلى احدث  نوع من التكرار والتشابه بين أجزاء  النص الشعرى الواحد .

والتداعى  له مميزات وله عيوب ويتوقف ذلك على توظيفه واستثماره من قِبَل الشاعر فى بناء النص، فلو أن الكلمات والثيمات والأفكار والأساليب اللغوية والفنية التى توجد بينها علاقة ما تداعت ونادت بعضها البعض، دون أن يكون فى  ذلك التكرار أو المشابهة أو التباين اٍضافة جديدة للنص على المستوى الجمالى والدلالى، تتمثّّل فى  ربط الجزء اللاحق بالجزء السابق من النصّّ,  وتجعل  الجزء اللاحق متجانسا ومتميزا عن الجزء  السابق فى آن واحد، فاٍن التداعى فى هذا الحالة يكون سببا فى ترهل النصّ حيث أن الشاعر قال ما يمكن قوله فى جزء من النص وجاءت باقى  الأجزاء تكرارا غير مفيد وليس فيه اٍضافة  لما قيل من قبل  .

وهناك التداعى الموسيقِى  الذى يخص موسيقى الشعر حيث تتداعى التفعيلات المتماثلة فى القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة, او النغمات والوحدات الموسيقية المتشابهة والمتقاربة فى الشعر الحر، وينتج عن هذا التداعى صورة موسيقية صوتية تلتحم وتمتزج بالصور الشعرية وتساهم فى بناء النص الشعرى وتقديمه للقارئ, ولكن من عيوب هذا النوع من التداعى أن ينساق الشاعر بكل حواسه وراء صوت التفعيلات أو النغمات المتشابهة والمتقاربة، التى تستدعى بعضها البعض حتى لو كانت تلك التفعيلات والنغمات الصائتة تحمل كلمات مباشرة، اٍذ أن الشاعر يكون مشغولا آنذاك بالموسيقى الصوتية فقط، وذلك على حساب التصوير الشعرى والإيحاء والترميز فيقع النصّ فى فخ الخطابية، ويتحول اٍلى كلام عادى مرسل ينتصر للنظم على حساب الشعر وجماليته .

ومن جوانب التداعى المفيدة فى قراءة  وتقييم التجارب الشعرية ـ سواءا كان ذلك  التقييم يقوم القارئ أو الشاعر نفسه ـ   أنه يمكن أن نتعرف من خلاله على اٍن كان هذا الشاعر أو ذاك  له بصمة وصوت شعرى خاص أم لا، فعندما نجد  أن شاعرا ما  لديه سمات أسلوبية خاصة  فى  بناء وتركيب اللغة الشعرية  وشبكة المتخيّّل الشعرى تترد فى القصيدة أو الديوان أو فى مجموع أعمال الشاعر، نعرف أن هذا الشاعر لديه صوت شعرى خاص, ويمتلك أدواات الشعر ويوظفها فى نصوصه بعيدا عن النمطية والتقليد .

ومن أخطر مظاهر التداعى  فى الشعر هو أن يكون التداعى  استدعاءا لأساليب لغوية وجمالية  تخصّ شعراء آخرين, اختزنها الشاعر فى ذاكرته وسيطرت على وعيه بشكل تام, ولم يستطع أن يهضمها ويجعل منها مرتكزا يبنى عليه سماته الأسلوبية الخاصة، فخرجت رغما عنه وهيمنت على نصَه الشعرى وجعلته مجرد محاكاة باهته واستنساخ لتجارب الآخرين, وأدخلته فى دائرة التناص الغير فنى  ووقع الحافر على الحافر .

...........

  13) السرد الشعري

السرد هو فعل القصّ وقد عُرف السرد فى الأدب الحديث والمعاصر بأنه بنية نصِّية مكونة من عدة عناصر, هى "الراوى والمروى له وبؤرة الحدث والزمان والمكان ومنظور السرد, واٍيقاع السرد والشخصية", تلك البنية النصية أطلق عليها الشكلانيون الروس مسمى "المبنى الحكائى", وهو التجلِّى النصّى لما يسمى "المتن الحكائى" أو الحكاية, ومجموعة الأحداث كما حدثت فى الواقع أو الخيال,  وبذلك تكون الحكاية هى المادة الخام أما السرد القصصى والروائى فهو المنتج الأدبى الذى تمت صياغته وتشكيله عبر اللغة الأدبية من الحكاية .

وعلاقة السرد بالشعر علاقة قديمة فالشعر الملحمى يعتمد فى بنائه على السرد حيث تجد أن الشاعر راويا, يقدم أحداثًا يقوم بها شخصيات فى فضاء مكانى وزمن معين, ويختلف السرد الشعرى عن السرد القصصى فى أنه يميل اٍلى الإيجاز وعدم التشعب فى اٍيراد تفاصيل الحدث, ( ونلاحظ أن السرد فى العملية الشعرية يتخذ خصوصية تكمن  فى  طبيعة بنائه, حيث تصبح العملية السردية جزءً من عملية أعم وأشمل, تشترك فيها الإيقاع والتوازيات, فى نقل التجربة فى بناء نص شعرى )1, ومن الأدوار الذى يقوم بها السرد فى بناء النص الشعرى أنه يساهم فى نسج وتركيب شبكة المتخيل الشعرى, ويربط بين أجزاء القصيدة كما يربط المونتاج السينمائى بين لقطات ومشاهد الفيلم, وهناك نقطة مهمة أود أن أشير اٍليها وهى أن السرد الشعرى يمكن أن يقدم ما يروق لى بأن أسميه  بالصورة الشعرية الحكائية القائمة على حكائية وحدثية السرد أكثر من المجاز, وهذه الصورة فى القصة والرواية تسمى صورة سردية أو  "مشهد سردى", وطالما أن حضور السرد أو أحد عناصره فى الشعر يصبغه بصفة الشعرية, يروق لى تسمية "صورة شعرية حكائية" عن تسمية "صورة سردية", كما فى هذا المقطع من قصيدة "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" للشاعر أمل دنقل :

أيتها النبية المقدّسهْ

لا تسكتى .. فقد سكتُّ سنةَ .. فسنهْ

"قيل لى" : اخرس

فخرست وعميتُ .. وائتممت بالخصيانْ

ظللت فى عبيد "عبس" أحرس القطعانْ

أجتر صوفها

أردُّ نوقها ..

أنام فى حظائر النسيانْ

طعامىَ : الكسرة .. والماء .. وبعض الثمرات اليابسةْ

وها أنا فى ساعة الطعانْ

ساعة أن تخاذل الكماة .. والرماة .. والفرسانْ..

دُعيت للميدانْ .

اعتمد الشاعر أمل دنقل على الحكائية أكثر من المجاز فى رسم هذه الصور, فالشاعر راوى ذاتى يخاطب مروى له ممسرح "زرقاء اليمامة", ويجسد شعوره عبر تدافع الجمل السردية التى تعبر عن حالات وتحولات الذات الشاعرة فى زمن ومكان معين, (  وقد اتخذ الشاعر أمل دنقل فى خطابه مع " زرقاء اليمامة " من شخصية " عنترة بن شدّاد "  قناعا شعريا يعبر به فى أحد مقاطع القصيدة عن رؤياه المعاصرة للنكسة وأسبابها، فعنترة الذى أمره حكام القبيلة بأن لا يتكلّم  ظلّ بين العبيد فى قبيلته دعوه كبار القبيلة لمواجهة الأعداء فى وقت الحرب عند تراجع الرماة والفرسان )2 . وكما أن حضور السرد أو أحد مكوناته فى الشعر يجعله سردا شعريًا يؤدى دورًا مع باقى العناصر فى بناء النص الشعرى وتقديمه للقارئ, فاٍن اللغة الشعرية بطابعها المجازى عندما تنتقل اٍلى السرد القصصى أو الروائى فاٍنها تصبح جزءًا منه, ولم تحضر لذاتها كى تعرض قدرة القاص أو الروائى على صياغة جملة شعرية مجازية, بل جاءت لتخدم البنية السردية القصصية أو الروائية لتقدم خطابا قصصيا أو روائيا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ شريف رزق ـ  آفاق الشعرية العربية الحديثة فى قصيدة النثر ـ  دار الكفاح للنشر والتوزيع ـ المملكة العربية السعودية ـ 2015م  ص 192

2 ـ محمد على عزب ـ الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة ـ دار العماد للنشر ـ مصر 2014م ص 10

(مقتطف من الفصل الأول من كتابى النقدى "مصطلحات ومفاهيم فى الشعر ـ مقاربة نقدية فى مصطلحات شائعة فى الشعر العربى الحديث والمعاصر " ـ قيد الكتابة)

   ...................

14) الغنائية في الشعر

 ارتبط الشعر بالغناء منذ أقدم العصور فى كل الأمم وقد قسّم "أرسطو" فى كتابه "فن الشعر" أنواع  الشعر عند الإغريق قديمًا اٍلى ثلاثة أنواع  هى الشعر الملحمي والشعر الدرامي والشعرالغنائي,  فالشعر الملحمي هو الذي يرتبط بسرد الملاحم,  والشعر الدرامي هو المسرحي, أما الشعر الغنائي فهو المرتبط بالغناء والآلة الموسيقية وتعبير الشاعر عن عاطفته وواجدانه الذاتي, ولم تختف الغنائية تماما من الشعر الملحمي والدرامي حيث كانت الذات الشاعرة تعبر عن تماسها واشتباكها لدرجة التماهي أحيانا بشخصية البطل أو أحد الشخوص في الملحمة أو الدراما, وكان "هوميروس"  ينشد ملحمة "الإلياذه والأوديسا" بمصاحبة آلة القيثارة وهو يتجوّل في بلاد الإغريق, وظهرت في أوربا في العصور الوسطى فرق الشعراء المتجولين الذين يغنون الشعر بمصاحبة الموسيقى .

ولم يُعرف عن الشعر العربي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام أنه كان مصاحبا للآلة الموسيقية, وكان الترديد والإنشاد  هو البديل عن الغناء بمصاحبة الموسيقى, وكان الغزل والبكاء على الأطلال والحنين شجرة الشعر الخضراء الوارفة الظلال فى الصحراء العربية, هو أجمل تجليات الغنائية والتعبير عن الوجدان الذاتي في الشعر العربي القديم, ولنذكر هذين البيتين لعنترة بن شداد الّذَيْنِ وُصِفا قديما وحديثا بأنهما أغزل ما قال العرب :

وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ   مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ  السُيوفِ لأَنَّها    لَمَعَت  كَبارِقِ   ثَغرِكِ   المُتَبَسِّمِ

مع الإقرار بعدم انتفاء الغنائية في باقي الأغراض الأخرى ولكنها كانت حاضرة بدرجات متفاوتة وفقا لحضور التعبير عن الوجدان الذاتي للشاعر, وأظنه كان حاضرا في غرض الفخر والنسيب اٍذ أن الذات الشاعر كانت تفحر بانتمائها للذات الجمعية الأهل / القبيلة, والجدير بالإشارة أن المستشرقين صنفوا الشعر العربي القديم على أنه شعر غنائي لأنه غير درامي وغير ملحمي وفقا لتقسيم أرسطو للشعر .

وبعد أن عرف العرب الآلات الموسيقية الوترية مثل العود والقيثارة  وآلات النفخ  مثل الناي, وأصبحت الموسيقى فنّا له رواده ودارسيه منذ العصر الأموي والعباسي ازدهر الشعر الغنائي العربي, وابتكر  العرب أشكالا  شعرية جديدة خصيصا من أجل الغناء مثل المواليا / الموال الذي نشأ في العراق وكان يصاغ بالفصحى في بدايته ثم أصبح نظما شعريا غنائيا عاميا, وكذلك نشأ الموشح  في القرن الثالث الهجري في الأندلس وهو شكل شعري خارج على وحدة الوزن والقافية يتكون من عدة مقطوعات كل مقطوعة تسمى بيتا أو دورا,  وتتكون كل مقطوعة  من غصن وقفل, والغصن عبارة مجموعة شطرات تتغير قوافيها من مقطوعة اٍلى آخرى, أما القفل فهو مجموعة شطرات لا تتغير أوزانها أو قوافيها, وقد صاغ أهل الأندلس فنا شعريا بالعامية على منوال الموشح وهو الزجل, حيث قال ابن العلامة عبد الرحمن بن خلدون في "مقدمة ابن خلدون" : ( ولمّا شاع التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق  كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية بغير أن  يلتزموا فيه اٍعرابا  واستحدثوا فتّا سموه بالزجل )1,  وابتكر المصريون نوعا جديدا من الزجل في القرن السابع الهجري سمّوه "البُلّيْق", وكان يغني في قصور السلاطين والساحات والأسواق, ويختلف عن الزجل في أنه يعتمد على الجمل القصيرة والأوزان الخفيفة واٍمكانية دمج المفردات الفصيحة والعامية في بليقة واحدة, ( يجئ  فيها المعرب وغيرالمعرب، ولذلك سميت بلّيقة من البلق وهو اختلاف الألوان،  وأن البلّيقة لا تزيد عن خمس  حشوات غالبا وقد تنتهي اٍلى السبع قليلا )2, وكان مؤلف البلاليق يُسمى بليقي وكان يؤلف البلاليق ويلحنها ويغنيها في نفس الوقت, وقد أشار اٍياس في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" اٍلى عمر الجندى "ابن مولاهم" كبير البليقين فى عهد السلطان حسن,  وأورد ـ ابن اٍياس ـ نَصّ بليقة  بعنوان "أنا جندي خلق", التي  غناها "ابن مولاهم" في قصر السلطان حسن, كما ظهر بعد ذلك في القرن التاسع عشر تقريبا شاعر الربابة الذي ينشد السيرة الهلالية شعرا عاميا على الربابة وظهرت فرق الأُدباتية "الشعراء الجوالين" التي كانت تجوب البلاد تغني الأزجال الأشعار الهزلية, وكان عبد الله النديم ينشر مساجلاته الشعرية مع "الأدباتية" في مجلة "الأستاذ" التي كانت تصدر في أواخر القرن التاسع عشر .

وقد أثيرت قضية ارتباط الغنائية في الشعر بمركزية الذات والتعبير عن الوجدان الخاص بالشاعر في أواخر القرن الثامن عشر على أيدي الشعراء الرومانسيين, ومن هنا بدأ التركيز على الجانب الوجداني الذاتي في الشعر الغنائي, وأصبح مفهوم الغنائية أكثر ارتباطا بالذاتية والوجدان الخاص بالشاعر أكثر من ارتباطها بالوزن العروضي أو الوزن الحر, وأصبح الجانب الذاتي في  الغنائية هو الأكثر تمثيلا للغنائية في الشعر الحديث والمعاصر  فالغنائية حاضرة أيضا في قصيدة النثر, ( ويرى بعض الباحثين أنه ـ الغنائية ـ  مصطلح مستنفذ في ظل صعود الشعر الدرامي )3 ولست مع هذه الآراء, فالغنائية بوصفها تعبيرا عن الذات  يمكن أن تتواجد في القصيدة الدرامية أو الملحمية أو السياسية وفي أي خطاب شعري, بشكل أو بآخر وفقا لحضور الذات الشاعرة في النص وتعبيرها عن مكنوناتها  ورؤاها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ مقدمة ابن خلدون ـ ط المطبعة الشرقية ـ القاهرة 1327هجرية ص 697

2 ـ التنوخي ـ الأقصى القريب ـ ط السعادة1327هجرية ص106

3  ـ  د. صلاح فضل ـ اساليب الشعرية الشعرية العربية المعاصرة ـ دار الآداب ـ القاهرة 1995م ص 86

* مقتطف من الفصل الأول من كتابي النقدي "مصطلحات ومفاهيم في الشعر ـ مقاربة نقدية في مصطلحات شائعة في الشعر العربي الحديث واالمعاصر "    

 ............

15)

الوزن .. والموسيقى .. والإيقاع  فى الشعر

------------------------------------------

أوجدت الذائقة الكلاسيكية نوعا من الترادف بين مصطلحات الوزن والموسيقى والإيقاع, ويعود ذلك اٍلى أن الإيقاع مصطلح مستعار من الموسيقى وهو يشير اٍلى تكرار تناوب صوتين / نغمتين فى مساحة زمنية معينة, والشعر الكلاسيكى كان جميعه شعرًا صائتًا, يقوم على تكرار وحدات صوتية مقننة بشكل منتظم, وأول من درس أوزان الشعر القديم هو الخليل بن أحمد الفراهيدى فى القرن الثانى الهجرى, وجمع أوزان الشعر فى خمسة عشر بحرًا فى كتاب "العروض" وجاء الأخفش ليضيف لها بحرا آخر هو بحر المتدارك, هذا اٍلى جانب الإلتزام بوحدة حرف الروي فى القصيدة الواحدة, ورغم خروج الموشح والزجل العامى على وحدة الوزن والقافية منذ القرن الثالث الهجرى, إلَّا أن  وحدة الوزن والقافية كما حددها العروض ظلت هى معيار دراسة النظم الشعرى عند العرب, واكتفوا عند الحديث عن الموشح بأنه قد يخرج على الوزن العربى ويأتى بطرق أو أوزان مخالفة للعروض, ولم تكن هناك محاولات لدراسة أوزان الموشح الخارج على النظم العروضى .                       

ومع حركة الحداثة الشعرية العربية وتناميها ظهرت أشكال شعرية جديدة منها ما خرج من رحم النظم الكلاسيكى اٍلى النظم الحر "قصيدة التفعيلة",  ومنها قام على المزج بين التفعيلات واعتصار موسيقى اللغة والتنغيم سواءً اتفق ذلك مع العروض أم لا "قصيدة العامية وقصيدة الشعر الحر", ومنها ما فارق النظم والموسيقى الصائتة بشكل نهائى "قصيدة النثر", وأدى ذلك اٍلى مسائلة المُسَلَّمة الكلاسيكية التى صنعت نوعا من الترادف بين مصطلحات الوزن والموسيقى والإيقاع, وأصبح مفهوم الإيقاع يشير اٍلى حالة تكرار دورى لتناوب حضور العناصر المتقابلة وانتظامها فى سياق النصّ الشعرى, فهناك الإيقاع الموسيقى, واٍيقاع اللغة والإيقاع الدلالى, واٍيقاع الحالة الشعرية .                                                                             

 فالإيقاع الموسيقى أو الصوتى لم يعد ينحسر فى الوزن العروضى فقط, وانتبه النقاد المحدثون إلى وجود ظواهر موسيقية أخرى فى النصّ الشعرى, مثل التشاكلات الصوتية "الجناس", والجرس الموسيقى للكلمات, والطبيعة الصوتية للحروف من ناحية الهمس والجهر, وأن لكل صوت فى اللغة نغمة موسيقية خاصة تتردد بين الصعود والهبوط, وينتج التنغيم عن توالى وتناوب نغمات أصوات اللغة بين الصعود  والهبوط, وقد ربط اٍبراهيم أنيس بين صعود وهبوط نغمات الصوت اللغوى وبين اكتمال المعنى من عدمه حيث قال : ( اٍذا انتهى المعنى هبط الصوت وأشْعَر بانتهائه, واٍذا كان للمعنى بقية صعد الصوت وأشْعَر السامع بوجوب انتظار باقيه )1 .         

أما اٍيقاع اللغة فى الشعرفهو بتعلق بتكرار لفظ أو جملة فعلية أو اٍسمية أو شبه جملة, أو تكرار صيغة لغوية فى النصّ, وتكرار تناوب الصيغ والأساليب أو تكرار ما يتشابه أو يتباين معها هو الذى يعطى للغة الشعر طابعها الإيقاعى, ويميزها عن لغة النثر, وهناك الإيقاع الدلالى القائم  على التناوب بين التشاكل الدلالى "التشابه والتماثل" والتباين "الإختلاف والتضاد" فالقصيدة ( تعتمد دلاليا على عناصر وموضوعات إما متوافقة ومنسجمة، وإما متباينة متنافرة. وهذا ما يجعل دلالة النَّص تتأرجح بين هذين المستويين أو بين خطين في مستوى واحد، ومن هنا يتولد الإيقاع الدلالي للنَّص )2, واٍيقاع الحالة الشعرية هو التناوب بين الإرتخاء والتوتر وبين الثبات والتغير .                                                                              

اٍن النص الشعرى مكون من مجموعة  من الثنائيات المتقابلة على المستوى الصوتى والتركيبى والدلالى, والإيقاع هو الذى يجسّد حركة حضور وتناوب تلك الثنائيات واٍقامة علاقات بينها داخل السياق الشعرى, فيما يشبه تدفق مياه الأنهار والبحار وتعاقب الليل والنهار وفصول السنة ودوران الأرض حول الشمس .                  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ إبراهيم أنيس ـ موسيقى الشعر ـ مكتبة الأنجلو المصرية 1952م ـ ص 168 

2ـ الطيب هلو ـ بلاغة الإيقاع فى قصيدة النثر ـ مطبعة الأنوار ـ وجدة ـ المغرب ط1 2010م  ص71

مقتطف من الفصل الأول من كتابي النقدي "مقاربة مفهومية في مصطلحات شعرية معاصرة" ـ قيد الكتابة

 

 ..............

محمد علي عزب

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق