أيقظته أصواتُ العصافيرِ المختلطةُ بحفيفِ أوراقِ الشجرة، فتح عينَيه في تثاقل، حاول أن يملأ صدرَه بالهواءِ فصفع رئتيه ببرودتِه فأخذ يسعلُ في قوة، أزاح الغطاءَ بصعوبةٍ، وجلس على حافةِ السرير، تدلت قدماه، فصرخ كعباه ألمًا، نظر إليهما بشفقةٍ وربت على ساقيه بحنو، نهض بصعوبةٍ وسار متجهًا للشباك وفتحه بلهفةٍ ليُصَبح على حبيبتِه، نظر لها بسعادةٍ وهمس متغزلًا:
صباحك سكر، استنفدت الأيامُ عمري، وأكل المرض جسدي وأنتِ كما كنتِ دومًا تزدادين جمالًا وطولًا يومًا بعد يوم، مر شريطُ عمرهِ سريعًا أمامه وهو يتأملها.. ولد، تزوج، وشاخ في هذا البيت أمامها، رحل عنه أحبته بالموت والسفر والانشغال، وظلت هي تؤنسُ وحدتَه، نظر إليها وإلى ذكرياته المنحوتة على قدها وملامحها في رضا، أغلق الشباك وأغلق معه ألبوم ذكريات الحي.
في اليوم التالي بدأ يفيقُ كعادته منتظرًا صوتُ حبيبته، تمزق قلبُه رهبًا لسماعه صوتًا مرعبًا، نهض بشكل فجائي فشعر بدوار شديد، مد يده في الهواء محاولًا الإمساك بأي شيء، قاوم عجزَه وقام مرتعبًا من صوت المنشارِ الكهربائي، فتح الشباك، احتبس صوتُه وهو يرى عمال البلدية يذبحونها، لم يسمع أحدٌ صرخاتها الملتاعة المستجدية، لم يدر كيف دبت الحياةُ في رجليه فجرى نازلًا السلم دون خوفٍ من سقوط، وصل الشارعَ ليرى الجرحَ النازفَ في مكانها الفارغ، و العصافيرَ المضطربةَ في السماء فزعةً صارخةً تبحث عن أعشاشها، طفرت دموعه وهو يرى ذكرياتِه تتساقط وتتشابك مع أوراقها المتناثرة، نظر إليها وهي تبتعد مسحولةً خلف عربة البلدية صارخةً عليه بحفيف فروعها المتشبثةِ بالأرض.
مسح عينيه.. وتوجه لبقايا الجذعِ النازف.. وقف فوقه في ثباتٍ متخشبًا، رافعًا ذراعيه في الهواء ممددًا أصابعه، متطلعًا رأسه للسماء.. أغمض عينيه، وانتظر.. علّ أوراقه تنبت من جديد.
.......
ايناس سيد جعيتم
0 التعليقات:
إرسال تعليق