تحركَت بنا عرباتُ البوكسِ التشيكي بعد تناولِ طعامِ السحور،
المسافةُ قصيرةٌ بين مدرسة القواتِ الخاصةِ والمطارِ، من
كميةِ الذخيرةِ التي أحملُها علمتُ أن مهمتَنا هذه المرة مختلفةٌ.
بطن زوجتي الحامل تسبقُها، ودَّعتني، أوصيتُها بأمي، مرَّتْ
عشرةُ أيامٍ منذ أن ودعتها.
ممنوعُ الاتصالُ بأحدٍ، ابذلوا جهدُكُم في التدريب، نقطة العرقِ
والإخفاءِ والتمويهِ الجيدِ يوفرون الدمَ في المعركةِ، المهمةُ
القادمة سَتكَونون مجموعةً واحدةً تقومُ بالكمينِ والإغارة،
الاستطلاعُ والتأمينُ من مهمةِ مجموعةٍ أخرى، تتكررُ هذه
التعليماتِ من القائدِ؛ ونحن ملتفون حولَ تختةِ الرملِ عليها
مجسمٌ لأرضِ المعركة .
يوسُف، المسئولُ عن جهازِ اللاسلكي، يجلسُ بجواري، تغلُبُ
لهجتُهُ الصعيديةُ على لغتِهِ، في مرحِنا لقبته بالقسيس،
ولقبني بالشيخ.
ركِبنَا الهليكوبتر، تحركت بنا فوقَ منطقةِ الدلتا،
اختلفَ تسليحُ كلٌ منا حسبَ تخصصه، مهمتي كانت التعاملُ
مع الأفراد.
نطيرُ على ارتفاعٍ منخفضٍ فوق البحر، توقفت الطائرةُ في
الهواءِ، كادت أن تلامسَ الماءَ الذي تناثرَ رذاذهُ المالحُ علي
وجوهِنا، ركبنا أربعةَ قواربَ صغيرة خاصةٍ بصيادي السمك
من أهل سيناء حتي الشاطئ.
اثنان يرتدون الملابسَ البدويةَ كانوا هم أدلائنا، سرنا معهم
بعيدًا عن الطريق، وصلنا منطقةَ رمانةِ قبل بزوغِ ضوءِ
الفجرِ، تمركزنَا في حفرٍ برميليةٍ تمَّ إعدادُها لنا علي بعدِ
مائتي متر من الطريقِ الذي ستمرُ به قواتُ الاحتياطي
التعبوي للعدو، غطي كلٌ منا حفرتُهُ بمشمعٍ غير لامع بلونِ
الرمالِ.
ذكرياتي تتزاحم، لعبي الكرة في الجرنِ بقريتنا، ركوبي فوقَ
(النورج) لدرسِ القمح، الساقيةُ وجلوسي بجوارِها مع ابنةَ
عمي التي خطبَها أبي لي من يوم ولادتها، بكائي وأنا أزورُ
والدي في المستشفى العسكري عقب هزيمتِنا في يونيو عام
1967، أشارَ لي ، اقتربتُ منه، قال:
لا تبكي يا بني، لم نحاربْ.
أسلم َ الروحُ شهيدًا.
أقسمتُ علي الأخذِ بثأرِ أبي حضرةَ الصولِ مجاهد، في العزاء
قال زميلُهُ :
أُبلِغنَا بصدورِ الأمر بانسحابِنا، انسحبنَا، لم نرَ صُهيونِي في
طريقِنَا، عبرنا المضايقَ بعَتادِنا ومدرعاتِنا سليمةٌ، ثم بدأ
قصفُنا بالطائراتِ، رفضَ أبوكَ مغادرةُ دبابتَهُ حاولَ الهروبَ
بها، تم تدميرَها، أخرجناهُ مصابًا ، كان بطلًا.
لم أعلمْ اتجاهَ القبلةِ، صليتُ الفجرَ، إذا كُتبَتْ لي الشهادةُ
فمرحبًا بدخولِ الجنةِ وأنا صائمٌ.
تفوقتُ في الرمايةِ بالبندقيةِ فتمَّ إلحاقي من وحدتي علي
المجموعةِ، تم زرْعَنا في منطقةِ كبريتِ، قنصنَا من جنودِ
العدو الكثير، كنت أهتف عقب كل عمليةِ قنصٍ ناجحةٍ، ثأرك
يا أبي، آخر عملية شاركتُ فيها، عبرنَا القناةَ ليلاً في قواربَ
مطاطيةٍ صغيرةٍ، انقسمنا مجموعتان، قامت الأولي بالإغارةِ
علي موقعٍ للعدوِ، ودمرتُه، كمنْتُ مع مجموعةِ الكمينِ ننتظرُ
قواتَ العدوِ التي ستأتي للمعاونةِ والمطاردةِ، تفاجأوا بنا،
عُدنا للضِفةِ الغربيةِ لقناةِ السويسِ بأسير.
بعضُ مركباتِ العدوِ تعبرُ الطريقَ ذهابًا وإيابًا، لم يتم اكتشافَنا
بفضلِ الإخفاءِ والتمويهِ الجيدِ.
الوقتُ يمرُ ببطءٍ، حرارةُ الشمسِ تتسللُ داخلَ الحفرِ، صليتُ
كثيرًا، تسللَّتْ بعضُ ذراتِ الرمالِ لوجهي.
أزيز طائراتنا تدكُ مراكزَ اتصالِ العدوِ بمنطقةِ رمانةِ وبالوظة.
إذاً هو العبورُ واستردادُ الكرامةِ، انتظرْنا هذا اليومِ طويلًا ،
سنواتٌ نعيشُ في خنادقَ بالكادِ تصلحُ للحياةِ، وسط دعايةٍ
يوميةِ عن تَنَعُمِ جنودِ العدوِ وتوافرَ وسائلَ الراحةِ لهم حتي
أنَّهم كانوا يأتون بعائلاتِهم لهم في الخطوطِ الخلفيةِ لتمركزِهم.
عرباتٌ ومركباتٌ للعدوِ تمرُ، لم نتحركْ، ننتظرُ تحركَ اللواءِ
162مدرع الاحتياطي التعبوي للهجومِ المضادِ.
أخيرًا تحركَ العدوِ، دباباتٌ ومجنزراتٌ وحاملاتُ جنودٍ،
تحسَّستُ سلاحي الآلي ونطقتُ الشهادتين.
أصبحَتْ القافلة في محاذاتنا، صوتُ قائدُنا معلنًا بَدءُ الهجومِ:
الله أكبر.
طلقةٌ من قاذفٍ مضادٍ للدروعِ أصابتْ برجُ دبابةِ القيادةِ في
المقدمةِ، فتحَ أفرادُها كابينةِ القيادةِ من أعلى، يقفزون، سقطَ
أولُهُم مع أولِ طلقةٍ لي، صحتُ:
ثأرُكَ يا أبي .
توالي سقوطُهُم، بدأنا كُلُنا في التعاملِ معهم،
العدو يردُ بطلقاتٍ بدونِ تركيزٍ، تفاجئوا بوجودِنا، في لحظاتٍ
تمَّ تدميرُ ثلاثَ دباباتٍ ومجنزرةٍ وقُتِلَ العديدُ من جنودِهم، بدأ
العدوُ في الانسحابِ حاملاً معه قتلاه.
غيرنا مكانَ تمركزِنا لحفرٍ أخري، وكمُنا في انتظارِهم.
طائرةٌ هليكوبتر تستطلعُ المكانَ، التزمنا بالصمتِ وعدمِ
الحركةِ، لم يطُلْ الوقتُ طائرتان سكاي هوك تدكُ مكانَ
تمركزِنا الأول.
عادَتْ دباباتُ ومجنزراتُ العدوِ للتحركِ، صدرَ الأمرُ بالاشتباكِ
معهم، تساقطتْ الحممُ من حولِنا، بدأتْ الطائراتُ قصفنَا.
مع كلِ إصابةٍ لدبابةٍ أو عربةٍ كنا نصيحُ ( اللهُ أكبرُ) سقطَ منا
العديدُ من الشهداءِ،
اشتباكٌ بين طائراتِنا وطائراتِ العدوِ، طائرةٌ لهم تهوي
للأرضِ، طيارٌ مصريٌ قفزَ بالمظلةِ عقبَ إصابةِ طائرتِه،
تمنيتُ لو استطعنا إنقاذَه.
حل الظلامُ، استشهِدَ قائدُنا، طبقًا للتعليمات كان علي قيادةِ
الأحياءِ والعودةِ للحدِ الأمامي لقواتنا.
سرنا منتشرين بعيدًا عن الطريق علي مسافاتٍ متقاربةٍ
لنتلافى ضرباتِ العدو، بدأ ضوءُ الفجر في البزوغِ، العدوُ
يبحثُ عنا بالطائراتِ، تم تحديدُ موقعِنا، أصابَنا الإرهاقُ وكان
بعضنا ينزفُ، توالت الانفجاراتِ حولنا، سقطَ بعضُنا شهداء،
طائرتا هليكوبتر تجوبا المكان، نزل منها العديدُ من القواتِ
حاصرونا، طالبونا بالاستسلام.
وجه أبي يطلُ علي باسمًا، صِحتُ:
لنقاومَ، لن يأخذونا أسري، ثأرك يا شهيد.
نفذتْ ذخيرتُنا، تبقي منا على قيدِ الحياةِ ثلاثةٌ، بدأنا الاشتباكَ
معهم بسونكي البندقيةِ.
ضربةٌ قويةٌ في ظهري، سقطتُ على إثرها مدرجٌ في دمائي،
تم أسرُنا.
نُقلنا لمنطقةِ بئرِ سبعٍ في صحراءِ النقبِ، كنا منهكي القوي
بعد أن نزفَت جراحُنا كثيرًا من الدماءِ، نمنا علي الأرضِ في
العراءِ، جرى استجوابنا ليلَ نهار في ظروفٍ شديدةُ القسوةِ
وكان المستجوبُ يتكلمُ اللغةَ العربيةَ بطلاقةٍ.
تم إجراءُ إسعافاتٍ أوليةٍ لنا في مستشفى ميداني، في الصباحِ
تقابَلت مع القسيس، يا إلهي، ما أشبهك يا يُوسفُ بأبي،
احتضنتُه، شممتُ فيهِ رائحةَ بلدي .
.....
بقلم / سيد جعيتم
جمهورية مصر العربية
استدراك: أطلق علي هذه العملية اسم صواعق رمانة
0 التعليقات:
إرسال تعليق