السبت، 17 أبريل 2021

مصطلحات ومفاهيم (جـ 4) بقلم الشاعر الناقد / محمد علي عزب

 


( 16 )

المعنى والدلالة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اختلف النقاد والباحثون حول طبيعة العلاقة بين مصطلحى "المعنى" و"الدلالة" فهناك تيار نقدى يرى أنهما مصطلحين مترادفين, وهناك تيّار آخر يرى أنهما مصطلحين مختلفين, ومن أبرز ممثلى التيّار الثانى الناقد الأمريكى "هيرش" الذى قال : فى كتابه "صحة التفسير" إن ( المعنى هو ما يمثله النصّ وما يعنيه المؤلف حين يستخدم مجموعة معينة من العلامات, أما الدلالة فتشير إلى العلاقة بين ذلك المعنى وشخص ما, أو بين المعنى ومفهوم ما )1, ولأن التفرقة بين مصطلحي المعنى والدلالة تشير إلى عدم تطابق ما يقصده ويعنيه الشاعر أو المؤلف, وبين ما يستنتجه القارئ, فإنني من المؤيدين لهذه التفرقة فالمعنى مرتبط بكتابة وبناء النصّ ومقصدية كاتبه, أما الدلالة فهى مرتبطة بالقراءة وفهم معاني النصّ, وكل قراءة جديدة للنصّ قد ينتج عنها دلالات جديدة, ممّا يعمل على إثراء النصّ, ويتسق ذلك مع مقولات النقد الحديث والمعاصر الذى يعطى للقارئ دورًا مهمًا فى إعادة إنتاج النصّ عبر تفكيكه وإعادة بنائه واكتشاف بنيته الجمالية والدلالية .

والجدير بالإشارة أن مقولة "تعدد الدلالات" فى النقد الحديث والمعاصر لا تعنى بذلك التعدد وجود تضارب أو تناقض بين الدلالات التى يستنتجها القارئ, ولكنها تعني اشتراك الدلالات المتعددة فى نواة معنوية واحدة موجودة داخل النصّ الأدبى, فمثلًا مفردة "حبيبة" فى النصّ الشعرى قد يرى قارئ أنها تدل على الحبيبة ذاتها, ويرى آخر أنها تدل على الوطن أو الحلم .

وليس المهم فى دلالة النصّ الشعرى هو الدلالة ذاتها ونوعية الموضوع الذى يعالجه الشاعر, فالموضوعات والأفكار كلها صالحة للشعر, ولكن المهم هو كيفية معالجة الشاعر للمعانى والأفكار والموضوعات معالجة شعرية, بشكل رمزى تصويرى يقوم على الإيحاء والتلميح, وكيفية إنتاج القارئ لدلالات النصّ عبر فكّ الشفرات والرموز, فمثلًا فى "القراءة السيميولجية" للنص الأدبى يتم التعامل مع المفردات اللغوية على أنها علامات ودوال لفظية تشير إلى مدلول, والدال هنا صورة لفظية تشير إلى صورة ذهنية تتكون فى مخيلة القارئ وهى محكومة بسياق النصّ الشعرى, فمفردة "شجرة" لا تشير إلى الشجرة الموجودة فى الواقع كشئ عيني, ولكنها تشير إلى تصوّر القارئ للشجرة, وكل قارئ حُر فى تصوره لشكل تلك الشجرة الذى يرسم صورتها في خياله وفقا لسياق النصّ, وبذلك يتحقق ما يسميه علماء السيمولجيا أو السيموطيقا "علم العلامات داخل النظام الاجتماعى"*2 اعتباطية الدلالة, وليس المقصود بالإعتباطية هو العشوائية ولكن المقصود حرية القارئ في إنتاج الدلالة وفقا لسياق النص الشعري .

وإلى جانب العلامات اللغوية هناك العلامات الأيقونية, والأيقونة فى السيميولجيا هى علامة تقوم فيها العلاقة بين الدال والمدلول على التماثل أو التشابه الشكلى, فالصور الفوتوغرافية والخرائط وإشارات المرور أيقونات سيميولجية, وفى الشعر والأدب فإن الصور الشعرية والمجازات علامات أيقونية, تجسّد عبر اللغة الشعرية ملامح العالم الذى يشير إليه النص الشعري, وتستحضره أمام مُخيلة القارئ ليفك شفراته ويستنتج دلالاته, ويمكن أن نعتبر علامات الترقيم ومساحات البياض والفراغات النصية علامات ودوال أيقونية تساهم فى توجيه القارئ وإرشاده لقراءة النص واستنتاج دلالاته .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ د. محمد عنانى ـ معجم المصطلحات الأدبية الحديثة ـ الشركة المصرية للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2003م ص 52

2 ـ أنظر المصدر السابق ـ السيموطيقا من ص 153 ـ ص 179

17)

الكلاسيكية الجديدة .. والنظرة الإنتقائية لتراث الشعر العربى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحياء التراثى هو مرادف مصطلح "الكلاسكية الجديدة" والتى  تعنى السفر إلى الماضى وإحياء التقاليد الأدبية القديمة, التى يرى فيها الإحيائيون فردوسا مفقودا, وقد عرف الشعر الأوربى التوجه الإحيائى التراثى فى منتصف القرن السادس عشر الميلادى, حيث اتجه تيار من الشعراء إلى إحياء تقاليد الشعر اللاتينى والإغريقى, أما فى الأدب العربى فقد ظهر تيّار إحياء التراث "الكلاسيكية الجدييدة" فى أواخر القرن التاسع عشر الميلادى, ومن أهم رواد هذا الاتجاه محمود سامى الباردوى وأحمد شوقى ومعروف الرصافى وحافظ إبراهيم .                                              

وقد أُطلق على التيار الإحيائى فى الشعر العربى مسمى "مدرسة الإحياء والبعث", وكان هذا التيّار جزء من حركة ثقافية تنويرية شاملة سُميت بحركة النهضة, والتى  كانت تدعوا إلى التمسك باللغة العربية الفصحى,  وإحياء تراثها  الشعرى والأدبى  فى مواجهة  ثقافة المحتل الأوروبى,  ويؤخذ على حركة الإحياء التراثى للشعر العربى كما هو معروف أن ذوبانها فى التراث كان أكثر من ذوبان التراث فيها, بمعنى أن الشاعر الإحيائى لم يستلهم الشكل التراثى ويضخ فيه دماءا جديدا على مستوى التشكيل اللغوى والأخيلة والمجازات, بل أنه اعتمد على الخيال الجزئى وجزالة اللفظ ورصانته, واستخدام نفس الأساليب الجمالية فمثلا يقول أحمد شوقى فى قصيدة "غربة وحنين" :                                                             

وسلا مصر هل سلا القلب عنها     أو أسى جرحه الزمان المؤسِّى

والشاعر هنا يوجه خطابه للمثنى وهى عادة عربية قديمة انتهجها شعراء الجاهلية, حيث أن الشاعر كان يتخيّل وجود شخصين يمشيان بجواره, أحدهما يحمل له الطعام والآخر يحمل له الشراب, هذا إلى جانب المعارضات الشعرية ومجاراة الشعراء القدماء حيث يقوم الشاعر الإحيائى بنظم قصيدة على نفس وزن وقافية قصيدة لشاعر عربى عربى قديم كنوع من المجاراة مع الأسلاف وإظهار البراعة والقدرة على النظم, وما أكثر هذه المعارضات الشعرية عند الشاعر الإحيائى أحمد شوقى, ومن أمثلة ذلك قصيدة "نهج البردة" التى يعارض ويجارى فيها أحمد شوقى قصيدة "البردة"  للإمام البوصيرى الذى عاش فى العصر المملوكى حيث يقول أحمد  شوقى فى مطلع القصيدة :                                                                        

ريم على القاع بين البان والعلمِ    أحلَّ سفك دمى فى الأشهر الحرم

ويقول البوصيرى فى مطلع قصيدة "البردة" :

أمن تذكُّر جيران بذى سَلَمِ    مزجت دمعا جرى من مقلة بدمِ

والطريف فى هذه المعارضة هى أن شوقى وأقرانه الذين رأوا أن العصر المملوكى عصر انحطاط شعرى هو نفسه الذى يعارض ويجارى شاعرا من العصر المملوكى ؟!

إن الكلاسيكية العربية الجديدة أو مدرسة الإحياء التراثى كانت ترى فى العصرين الأموى والعباسى, ومعهما العصر  الجاهلى فردوس الشعر العربى المفقود, ولذلك قفز الشاعر الإحيائى على العصر المملوكى والعصر العثمانى, ليتواصل مع شعراء العصور السابقة متفقا فى ذلك مع المقولة التى تدعى بأن العصر المملوكى والعثمانى عصر انحطاط شعرى, وهذه المقولة لم تكن مبنية على دراسة ومعرفة موضوعية بالشعر فى العصريين العثمانى والمملوكى, ورغم أنها مقولة بلا أسانيد أو درسات تدعمها إلاّ أنها انتشرت بين قطاع من الشعراء حتى يومنا هذا ؟! وليت أصحاب هذه المقولة يقرأون قصائد لشعراء من العصر المملوكى مثل جمال الدين بن نباته, وأبى الحسين الجزار, والسراج الوراق, والشهاب المنصورى, وصدر الدين الوكيل, وعلاء الدين بن مليك وغيرهم,  وكذلك يقرأون قصائد لشعراء من  العصر العثمانى مثل  عبد الله الشبرواى والشهاب الخفاجى وعبد الله الإدكاوى الخشاب وغيرهم, وساعتها سيكون الحكم موضوعيا بدلا من تريديد مقولات بلا أسانيد موضوعية مبنية على قراءة ومعرفة بشعر وشعراء هذين العصرين ـ المملوكى والعثمانى ـ الذى ظلمهم تاريخ الأدب العربى .                                                                       

وبناءا على ما سبق فإن مدرسة الإحياء التراثى فى الشعرى العربى من وجهة نظرى هى مدرسة تجزيئية, وانتقائية فى إحيائها  لتقاليد الشعر العربى القديم بإسقاطها لعصرين من عصور الشعر العربى, دون العودة إلى معرفة المنجز الشعرى لهذين العصرين, وأود هنا أن أستشهد بمثالين شعريين من العصر المملوكى, المثال الأول منهما مقطع من قصيدة فى وصف الطبيعة المصرية للشهاب المنصورى :               

 إن جزتَ بالهرمين  قُلْ كم فيهما      من  عبرةِ      للعاقل   المتأمّل

شبَّهت   كلا   منهما      بمسافرِ     عرف المحل فبات دون  المنزلِ

أو عاشقيين وشى بهما   أبوالـ      هول  الرقيب    فخلّفاه    بمعزلِ

أو حائرين اسْـتَهْديا  نجم السما      فهداهما      بضيائهِ    المتهللِ

أو ظامئين استسقيا صوب الحيا      فسقاهما    عذبا   روى المنهلِ

يفنى الزمان وفى   حشاه منهما    غيظ الحسود وضجْرةِ  المستثقلِ )1                أ

أما المقطع الثانى من قصيدة عن الحنين للوطن للشاعر المصرى جمال الدين بن نباتة :

 ناعورة نشأتْ   على عهد الأسى       مثلى  فما  تنفكُّ    ذات  توجّعِ

كانت  قضيبا  قبل    ذلك    يانعا       فى أيكةٍ  نبتت بإسرةِ   موضعِ

ناحَ  الحمامُ  بها  وأبكانى الأسى      فتعلَّمَـتْ   نوحَ الحمام  وأدمعى )2 

وبالطبع لا أقصد بإيراد هذين المثاليين لأضئ بهما وجه الشعر فى العصر المملوكى, فربما يكون كل من ابن نباتة والشهاب المنصورى استثناء وتجربة فردية فى ذلك العصر, بل أن هذين المثاليين ـ بالطبع ـ لا يمكن أن نكتفى بهما للتدليل على شعرية ابن نباتة والشهاب المنصورى, لكنى أوردتهما هنا للإشارة , الإشارة فقط ومن يريد أن يستزيد فليبحث عن شعر العصرين المملوكى والعثمانى, ليرى هل الكلاسكية العربية الجديدة "مدرسة الإحياء والبعث" كانت انتقائية فى نظرتها لتراث الشعر العربى أم لا ؟! .                                                                            

ـــــ------------ــــــ

 1ـ جلال الدين السيوطى ـ حسن الحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ 1967م ج 1 ص 83

2 ـ    ديوان جمال الدين بن نباتة ـ دار إحياء التراث العربى ـ بيروت ـ بدون تاريخ نشر . ص 315

...........

18)

 الرومانسية .. مذهب شعرى وطابع وجدانى

نشأت الرومانسية كحركة فكرية أثرت على الفنون والآداب والمسرح فى فرنسا فى أواخر القرن الثامن عشر, ثم انتقلت بعد ذلك إلى باقى دول أوروبا ثم باقى دول العالم, وارتبطت االرومانسية بالشعر ارتباطا كبيرًا لأنها تمجد الذاتية والخيال والمثالية والحب والعاطفة الجياشة والنزعة التشاؤمية واعتبار أن الشعر والأدبب تدفق تلقائى يعبر عن شخصية الشاعر, والعودة إلى الطبيعة لأنها مصدر النقاء والفطرة, وليس صحيحا ( أن الرومانسية هى مخاصمة للواقع ومصالحة للأحلام )1 ولكن الرومانسية تسعى إلى تثوير الواقع بالحلم فالرومانسيون كانوا أبناء الثورة الفرنسية 1789م, وفى شعرنا العربى نجد سمة تثوير الواقع بالحلم متحققة فى شعر أبى القاسم الشابى "1909م ـ 1934م", ولاننسى مطلع قصيدة "إرادة الحياة" للشابى الذى ردده الثوار فى الميادين أثناء ثورات الربيع العربى فى مصر وتونس :

إذا الشعب يوما أراد الحياه ** فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلى **  ولا بد للقيد أن ينكسر

وأول من أطلق مقولة أن المقابلة بين الرومانسية والكلاسيكية هى المقابلة بين شعر العصر القديم والشعر الحديث هو الناقد الألمانى "أوجست شليجل" فى إحدى محاضراته سنة 1801م (2), فالكلاسيكيون كانوا يرون أن النموذج التراثى نموذجًا مثاليًا, ولذلك اتجهوا للماضى واستخدموا أساليبه الفنية والجمالية, أمّا الرومانسيون فاتجهوا إلى استبطان الذات والخيال والعفوية, تجنبوا رصانة وجزالة اللفظ والتأنُّق اللغوى, وكان الشاعر الرومانسى مثاليا يري أنه ضحية فى هذا العالم, وكانت الاتفعالات الحاد سمة من سمات الشاعر الرومانسى المثالى البرئ وقد عُرفت الرومانسية فى شعرنا العربى فى العقد الثانى من القرن العشرين وتجلت الرومانسيية العربية فى ثلاث جماعات شعرية هى جماعة الديوان وممثلوها العقاد والمازنى وعبد الرحمن شكرى وتأثرت بالرومانسيية الإنجليزية عند شعراء الإنجليز "شيلى" و"كيتس" و"وردزورث", وجماعة أبوللو وقد تأثرت بالرومانسية الفرنسية عند ومثلها أحمد زكى أبو شادى وإبراهيم ناجى وعلى محمود طه وأبو القاسم الشابى رائد ممثلى الرومانسية الثورية فى الشعر العربى, ومحمود حسن إسماعيل رائد ممثلى التوجه الرومانسى بالعودة إلى الطبيعة والاشتباك بها فى شعرنا العربى, والجماعة الثالثة هى جماعة المهجر الذى يعد مطران الأب الروحى لها وقد ضمت هذه الجماعة ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأيليا أبوماضى الذى تعد قصائده من أقوى القصائد االعربية التى تجسد البعد المثالى والتسامح والنبل فى الشعر الرومانسى العربى, حيث يقول إيليا أبو ماضى فى قصيدة بعنوان "الشاعر":

عندما أبدعَ هذا الكونَ ربُّ العالمينا

ورأى كل الذى فيه جميلا وثمينا

خلقَ الشاعِرَ كى يخلقَ للناس عيونا

تبصر الحسنَ وتهواهُ حراكا وسكونا

وزمانا ومكانا وشخوصا وشؤونا

وترينا الطُهر حتى فى الجناةِ الآثمينا

وفى بداية القرن العشرين قامت ثورة على الرومانسية فى أوروبا دعت إلى محاربة التلقائية والعفوية المطلقة, وطالبت بالربط بين التلقائية والإرادة الواعية وقد عُرف هذا التوجه باسم "الرومانسية الجديدة" واعتبر البعض أنها أحد فروع الحداثة التى قامت فى جوهرها على الوعى الروحى والفكرى بالذات ومتغيرات العصر والواقع فلم الشاعر ضحية لا ذنب لها يعبر بعفوية وانفعال حاد عن حزنه ومشاعره الدفينه, بل أصبح الشاعر الحداثى جزءًا لا يتجزء من هذا العالم يمتلك وعيًا به وبالذات والآخر .

وبالرغم من أن الرومانسية فى عصرنا أصبحت مدرسة شعرية تنتمى للماضى, فلم تعد الشعرية المعاصرة تنظر للشعر على أنه تعبير مباشر عن شخصية الشاعر, ولم تعد العفوية والتلقائية والمثالية المفرطة من لوازم الشعر المعاصر, إلاّ أن الجانب الوجدانى الرومانسية والذى يتمثل فى العاطفة الجيّاشة والحب والذاتية سيظل مرتبطا بالشعر فى كل العصور, بل أن الرومانسية انتقلت من مجال الشعر والأدب إلى مجال الحياة العامة, وأصبحت مصطلحًا حياتيا يشير إلى كل ما هو عاطفى ومثالى .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ـ عرض وتقديم وترجمة د . سعيد علوش ـ دار الكتاب اللبنانى ـ بيروت 1985م ص 107

2ـ رينيه ويلك ـ مفاهيم أدبية ـ ترجمة د.محمد عصفور ـ عالم المعرفة العدد 110 ـ الكويت فبراير 1987 ص 66

 ......................................

  (19) الانفعال الشعرى .. واللغة والأثر

تتميز اللغة الشعرية بأنها لغة رامزة موحية تتخلّى عن الوظيفة الإشارية المباشرة للكائنات والأشياء وظواهر الوجود, وتعتمد فى تركيبها على التكثيف والترميز والإيحاء والإيماء, والانزياح عن معيار بناء اللغة العادية, ومن باب استفادة الأنواع الأدبية من بعضها استعارت لغة السرد القصصى والروائى الحداثى بعضا من الأساليب والسمات الجمالية الخاصة بلغة الشعر, وكان المراد من ذلك هو خدمة المتخييل السردى وتنوع طرائق صياغته وتقديمه للقارئ, فالمتخيّل القصصى والروائى بالأساس يعتمد فى بنائه على الصورة السردية القائمة على تدفق الجمل السردية وحكائية وحدثية السرد, وعند استعارة خصائص اللغة الشعرية فى بناء المتخييل القصصى والروائى فإنه يتشكل فى هيئة مشاهد قصصية وروائية ذات طابع مجازى تصويرى قائمة على الإيحاء والرمز, وبذلك فإن خصائص اللغة الشعرية عندما تنتقل للسرد فإنها تؤدى آداءا سرديا لتجسِّد مشهدا قصصيا حكائيا, ولا تُحدث ما يسمى بالأثر الشعرى : وهو انطباع تنتجه حواس القارئ عندما تحتك بالنص الشعرى, ذلك الأثر الذى يميز لغة الشعر عن اللغة التوصيلية أو اللغة العلمية التى تهدف إلى إيصال معلومات ومقولات فكرية محددة, أو غيرها من أنواع اللغة الأدبية كلغة القص ولغة المسرح التى تجسد التنامى الدرامى عبر حوار الشخصيات, ولغة النثر التى تقدم تصورات ذهنية ووجهات نظر, حتى وإن استعارت لغة القص أو النثر بعضا من الأساليب الجمالية الخاصة بلغة الشعر يظل الأثر الشعرى ملازم ومميز للغة الشعر عن ما سواها .

وعندما يقوم الشاعر باختيار مفرداته التى يبنى بها نصه الشعرى من بين مفردات اللغة, فإن هذا الاختيار لا يأتى بشكل اعتباطى بل يتحدد طبقا لوعى وحساسية الشاعر باللغة والتاريخ الإيحائى لمفرداتها, ومدى قدرتها على التعبير عن تجربته وانفعالاته الشعرية, تلك الحساسية التى يتوقف عليها تفضيل الشاعر لمفرادت معينة دون مفردة أخرى تشترك معها فى نفس المعنى, مثل كلمة ناس التى تشترك مع كلمات بشر وأشخاص وذوات فى المعنى .

ومفردات لغة الشعر تكون دائما ملتصقة بشعور ووعى ووجدان الشاعر التصاقا تاما لا انفصال فيه, وقد يجد القارئ نصّا يتوافر فيه الخصائص البنائية والأسلوبية للغة الشعر من انزياح ومجاز وترميز, إلاّ أنه لا يشعر أنه أمام نص شعرى يشتبك بالوجدان والشعور والقلب والعقل, بل يشعر أنه أمام "نص ذِهنى" يقدم تصوّرات ذهنية عقلية بحته, وذلك لأن المفردات اللغوية فى هذه الحالة تكون منفصلة عن شعور ووجدان الشاعر, وبالتالى لا تكون مشحونة بأى انفعال شعرى تنقله للقارئ, والانفعال مصطلح مأخوذ من علم النفس وهو يعبر عن حالة نفسية وشعورية ( ويطلق على كل المظاهر الوجدانية بوجه عام كاللذة والألم )1, وبذلك فإن الشاعر فى تجربته الشعرية التى يتجاوز فيها الواقع, ولا ينفصل عنه انفصالا تاما لا يُجسّد بلغته الشعرية تصورات ذهنية للعالم والأشياء أو مقولات محددة, بل يجسد انفعالاته الذاتية بالعالم وظواهره وأشيائه وموضوعاته .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ـ عرض وتقديم وترجمة د . سعيد علوش ـ دار الكتاب اللبنانى ـ بيروت 1985م ص 167

 

   20)

 المشهدية الشعرية

المشهد لغةَ كما ورد فى معاجم وقواميس اللغة العربية هو ما يُرى ويُشاهَد, ومكان المشاهدة, والجمع من الناس, والمشهد اصطلاحا هو وحدة درامية جزئية ـ جزء من فيلم أو مسرحية ـ تشير إلى آداء تمثيلى فى فضاء مادى محدد, وقد استعار الشعر الحديث والمعاصر مصطلح المشهد والمشهدية من السينما والمسرح والفنون التشكيلية، واستطاعت شعرية الشعر الحديث أن يكون لها مشهديتها الخاصة التي تخاطب مخيلة القارئ وتستخضر أمامه العالم الدي يشير إليه النص الشعري، عبر تحويل الثيمات والمعاني المجردة إلى معطي بصري تصويري / مشهد .

وإن كان المسرح هو أبو فن التمثيل فإن المسرح كان شعريا في بدايته عند الإغريق، بدأ بممثل واحد يقف على خشبة المسرح يصف ويصور ويجسد الشخصيات وكان آداءه التمثيلى ممزوج بالاستعارات والصورر الشعرية، التى تتناغم مع الآداء التمثيلى الحركى, وإن كان الفن التشكيلي بالأساس فن بصري يخاطب العين مباشرة لاستشارة الخيال عبر الرسم أو النحت فإن الشعر هو فن التخييل وتشخيص المعاني والرؤى عبر اللغة الواصفة المُشَخّصة، وقد أولى القدماء اهتماما بالصورة الشعرية حيث قال أرسطو في كتابه "فن الشعر" عن الاستعارة والتصوير المجازى ( أعظم الأساليب حقا هو أسلوب الاستعارة .. وهو آية الموهبة )1، وفي تراثنا العربي تحدث العديد من النقاد عن الصورة ومنهم الجاحظ الذى قال: ( إن الشعر صناعة, وضرب من النسج, و وجنس من التصوير )2 , واعتبر "ابن سينا" أن الشعر ( كلام مُخَيّل مؤلف من أقوال موزونة متساوية )3, وهكذا فرق العرب بين الشعر باعتباره كلاما مخيلا ذا معنى, وبين النظم الخالى من التخييل, ولم يعتبروا ألفية ابن مالك فى النحو شعرا رغم أنها منظومة ملتزمة بالوزن والقافية.

إذا فجذور التمثيل والتصوير موجودة في الشعر منذ القدم، فالصورة الشعرية والتخييل هما الأساس الذي ارتكزت عليه المشهدية الشعرية، وكذلك اهتمت المدارس الشعرية الحديثة بالصورة وتشكيلها, وصبغها بالرؤية الفنية لهذه المدرسة أو تلك, فالرومانسيون اعتمدوا فى تشكيل صورهم الشعرية على التشخيص وإضفاء صفات إنسانية على عناصر الطبيعة التى أعتبروا أنها مصدر النقاء والفطرة, واتجه الرمزيون إلى إضفاء طابع رمزى على الصورة الشعرية, وجاء الشعراء التصويرون فى انجلترا وأمريكا فى منتصف العقد الثانى من القرن العشرين وأطلقوا على أنفسهم هذا االاسم نظرا لاهتمامهم بالصورة الشعرية التى ( تتميز بالوضوح وبقدرتها على الإيحاء بصور مرئية تفيض بالحياة )4, أما السرياليون فقد أطلقوا على غرابة الصورة الشعرية, والتباعد بين طرفيها عن المألوف للعقل والحواس ( مسمى الإشعاع أو اللهب السريالى, كقول الشاعر "ريفردى" : مثلا "فى الساقية تجرى أغنية", أو قوله "العالم يدخل فى كيس", أو قوله : "وانتشر النهار كغطاء أبيض" )5 .

وهكذا كان للتصوير الشعرى دورا محوريا فى كل المدارس والتوجهات الشعرية قديما وحديثا, والتصوير باللغة الواصفة المشخِّصة ذات الطابع الانحرافى عن معيار بناء اللغة العادية هو الأساس الذى ارتكزت عليه الشعرية المعاصرة, التى استعارت المشهدية من حقل السينما والمسرح لتضفى عليها طابعا شعريا, وأصبحت القصيدة عبارة عن مشهد كلي دال يتكون من عدة مشاهد جزئية، وكل مشهد من مكون من لقطات، والرابط بين هذه اللقطات والمشاهد التمثيلية هو السرد الشعري الذي يقوم بنفس الدور الذي يقوم به المونتاج في الفيلم السينمائي في انتقاء اللقطات والمشاهد الموحية المؤثرة والربط بينها .

……..

1ـ إحسان عباس ـ فن الشعر ـ دار الثقافة ـ بيروت 1959م ط 2 ص 141

2 ـ الجاحظ ـ كتاب الحيوان ـ ص 133

3 ـ على العلوى ـ مفهوم الشعر عند ابن سينا ـ كتاب المجلة العربية العدد 133 أغسطس 2008م

4 ـ معجم مصطلحات العربية فى الأدب واللغة ـ مجدى وهبة وكامل المهندس ـ مكتبة لبنان ـ بيروت 1984م, ص 107

5 ـ المعجم المفصل فى اللغة والأدب ـ د. إميل بديع ود. ميشيل عاصى ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1987م المجلد الثانى ص 717

.............

 مقتطفات من الفصل الأول من كتابي النقدي '' مقاربة مفهومية في مصطلحات شعرية معاصرة - قيد الكتابة

 ...................

محمد علي عزب

0 التعليقات:

إرسال تعليق