السبت، 30 يناير 2021

(حسن هزاع ) طائر الحب الضاحك بقلم الأستاذ / محمود أبو عيشة

 



ربِّ هبْ لي من لدنك قصيدةً

تكن عملًا صالحًا

هل مات. لا لم يمت. الشعراء لا يموتون. إنني أرى وجهه الضاحك، يُلقي شعرًا على الملائكة. تقصد الشياطين. لا شياطين في الشعر، تلك كذبة كبرى. طائر الحب الحزين. لا تقل ذلك، قلْ طائر الحب الضاحك، هذا هزاع بين لقاءين، قبل الأخير يُسجله محمد عكاشة بقلمه وكاميرته، أبوعيشة كشيخ كتاب محنك، يشبك أصابعه ويميل برأسه مصغيًا بحكم أنه فقيه لغوي، كان يومًا جميلًا مع الشاعر ناصر محمود والشاعر محمد عزب في ضيافة عم حسن.

في العام ألفين وستة عشر كنا نحتفي بعلي منصور بالمركز الدولى للكتاب، سألتُ مَنْ طريقه يوافق طريقي. قال حسن أنا. دخل السيارة بحياء شاعر يستحي حتى أن يقول إنه شاعر وأهداني ديوانه الأول (فاصلة خارج النص) بإهداء كاشف، فاصلتي ظل أتوكأ عليه بينكم. قلت مداعبًا ليتها كانت فاصلة.

أنا البلاهةُ

أعشق مؤخراتِ وعودٍ

بدأتْ بحرف السين

في برنامج الحكومة

قرأت اعترفاته فصحتُ وجدتُ شاعرًا فحلًا وعلى القبيلة أن تحتفي. وقلت عليك أن تغزو العالم. فصار ضيفًا على ندوات القاهرة والإسكندرية، ونشر ديوانه الثاني (قال الصمت لي).

تسألني الأشياءُ حولي مندهشةً

ما بك هذا الصباح ؟

ذلك أني مسحتُ أرقًا عالقًا بها

أطلقتُ غرفتي من أسْرها لتصافحَ نسائمَ كانت

تتوارى خلفَ النافذة

كنتُ رقيقًا مع فنجانِ قهوتي، أمهلتُه حتى انتشى برائحةِ البنِّ المحوج

ألقيتُ التحيةَ على "العِقد الفريد"و"أرسولا" و"محمود أبو عيشة حتى مطلع الفجر".

هذا طائر الحب، المتيم بالحياة، مَن يحب الحياة لا يدركه الموت، الشاب اليافع، كما أناديه، الطائر الذي يصيد فراشات الحب الجميلات، حالة حب، أقول له أنت شاعر حقيقي، اخرج من قفص (فِعَال)، تبتسم عيناه المملوءتان عشقًا. الحب الخالد الذي خلقه خلقًا بعد خلق، يحكى لنا قصته مع الشعر: لم أعش حياة مترفة، لكني كنت محظوظًا؛ فأنا الوحيد بين إخوة خمسة الذي تلقى تعليمًا جامعيًا، مات أبي في التاسعة والثلاثين، كنت في بداية المرحلة الثانوية، مرحلة تكوين ثقافي ووجداني وإقامة علاقات اجتماعية مع الآخر وتشرب القيم خاصة الدينية وتصور مجتمع مثالي، لم يكن لديَّ اختيار بين أن أواصل تعليمي ومساعدة الأسرة التي فقدت عائلها ولا دخل لها على الإطلاق، التحقت بالعمل في مشروع رصف طريق غرب بحر تيرة ضمن مشاريع شركة حسن علام، ما أدخره من العمل في شهور الإجازة كان يعيننا في سد احتياجتنا الأساسية، لم أشتر كتابًا، لا رواية ولا ديوانًا، كان اعتمادي على مكتبة المدرسة فقرأت إبراهيم ناجي وبيرم التونسي والمنفلوطي، إلى جانب اهتمامي بالفلسفة لما غرسه مدرس الفلسفة أستاذ نصحي في نفسي من حبها، مرت المرحلة الثانوية بسلام دون تكوين ثقافي يتناسب والمرحلة، إذ كانت مجلة الطليعة والكاتب ومجلة العربي هي كل ما أستطيع شراءه إلى جانب الاستعارة من صديقيَّ محمد غيطاس ومحمد مهدي،كما كانت إذاعة البرنامج الثاني زادًا يوميًا من المسرحيات العالمية.

في العام ١٩٦٩ /١٩٧٠ التحقتُ بكلية التربية جامعة عين شمس، وكان لي أصدقاء بكلية دار العلوم،أبلغني محمد جبة وصبري أبو باشا أن صباحية شعرية تعقد كل يوم سبت بالكلية ودعواني للحضور، فكنت مواظبًا على حضور هذه الصباحية الشعرية، وذات مرة أردت المشاركة بنصَّ مازلتُ أذكره بعنوان "ستُّ الحُسن".

ياسيدتي

يعلو الشَّعرَ الأسمرَ تاج

يبدو الدفءُ، يبدو الحبُّ في عينيكِ اللامعتين

تأتي الشمسُ كيما تأخذ بعضَ شعاعٍ من عينيك

أشعرُ أني لو أتقرب

أُصبحُ أعظمَ من سلطان

لستُ أميرًا حقًا لكن

يقذفُ بي قدري المحتوم

كيما أصبح مثلك يومًا

محضَ أمير

يعلنُ مولانا السلطان

لن يتزوجَ ستَّ الحسن غيرُ الفارس

من يأتيني ببحرِ دماءٍ دون جروحٍ في كفيه

يدعو في جهرٍ وخشوع

طال العُمرُ وزاد الجاه

عمَّ الخيرُ وزال الشر

للسلطان، عن السلطان

يا سيدتي

هذا أبوكِ يعلنُ أن الدربَ الأوحد

دربُ دماءٍ، محضُ رياء

ياسيدتي

هل تخشين السوطَ، العزلة، والسَّياف

قولي إنكِ لا تخشين

أما عني

فلست أخاف

يا سيدتي

قولي إن الدربَ طويلٌ يا مولاي

مَن يتحمل

يصبحُ صهرًا للسلطان

دون دماءٍ أو بهتان

وقبل أن أكملَ المقطع الأول من النصِّ، سألني أحد الجالسين على المنصةِ بنبرةٍ ساخرة: أسمعتَ موسيقى أسمر، حبيبي الاسمر؟ فضجَّ المدرجُ بالضحك وخرجتُ كسيفَ الوجدان ولم أتجرأ على حضور أمسيات ولا ندوات.

انقضت سنوات الدراسة بالجامعة دون غرس ولا زرع؛ جراء ما تعرضتُ له مما حسبته إهانة وأنا ابن الثمانية عشر ربيعًا، فلم أتجرأ على حضور أمسية أي لكني كنت مواظبًا على القراءة شعرًا من مجلة الشعر التي كان يرأسها شوقي ضيف، ثم عبد القادر القط، ومسرحًا من خلال سلسلة المسرح العالمي وقصة ورواية مما يتوافر لدى الأصدقاء.

خطبت ابنة زوج عمتي قبل تخرجي بشهرين فقلت فيها ما أحسبه شعرًا مما أذكره نصًّا بعنوان أصغي إليّ، لحنه سيد بركات شقيق صديقي محمد بركات من منية شبين القناطر.

حين يؤوبُ الليل

أخفي وجهي في كفيّ

أخلعُ عن ذاكرتي وجهَ الناسِ، وضوءَ الشمسِ وكلَّ قصاصات الأحداث

لا يبقى في ذاكرتي إلا عيناكِ الدافئتان

عُينتُ مدرسًا للفلسفة بمدرسة بني مزار الثانوية بنين بمحافظة المنيا، أمضيتُ بها عامين دراسيين، لم أشارك في أمسياتِ الشعر وندواته وإن كنت كتبتُ ما يشبهه تارة بالعامية وأخرى بالفصحى أذكر منه نصًّا بالعامية بعد حرب أكتوبر

أحبك أد حبك للحياة والناس

أحبك بسمة تتمخطر فوق شفايفهم

أحبك نسمة جيّا لي تثير فيا شجن، إحساس

فغنيلك غنايا حب

وأهديلك هدايا الحب

عشان تمشي قصاد الناس

بكل الحب يا غنوة بغنيها بكل الحب

يا بلدي

وأخذت عن هذا النص من مركز التدريب بعد التحاقي بالقوات المسلحة لأداء الخدمة العسكرية عام ١٩٧٦، استدعاني قائد السرية اسمه لطفي- للأسف لا أذكر اللقب- للاشتراك في مسرحية طبيخ الملايكة بطولته والممثل وجدي العربي على مسرح قصر ثقافة زينهم.

 طرقت باب النشر دونما جدوى إذ ذهبت أنا وعلي منصور إلى محمد مهران السيد بمقر المجلة التي كان يعمل بها، كان رجلًا طيبًا، لم أكرر محاولات النشر وآثرت الاختباء حاملًا هموم الحياة وحدي.

كنتُ أسجلُ ما أكتبه مما يشبه الشعرَ في أوراقٍ وكراساتٍ تجمعها وأعدادٍ كثيرة من مجلات الطليعة والكاتب والعربي الكويتية، إلى جانب أعداد من سلسلة المسرح العالمي ثلاثُ كراتين احتفظتُ بها بعد انتقالي في ٢٨ نوفمبر عام ١٩٧٨ إلى شقة الزوجية، كانت تلك متاعي، جرت انتخابات مجلس الشعب عام ١٩٧٩ وشاركت أصدقائي سعيد أبوطالب وعلي منصور وكمال الصفتي في دعم مرشح حزب التجمع عبد العاطي شعلان، وزار مدينتنا خالد محيي الدين وألقى عبد الباري البسيوني نصَّا بعنوان أموتُ جوعًا من أجل عينيك.

إلى متى ستظلُّ ألسنةُ الجياعِ معلقة

بين انتفاضة الأمعاءِ تصرخُ من سياطِ الجوع

بعد اللقاء قال شكري البسيوني إن أمن الدولة يبحث عنا، فخفت ولم أذهب إلى شقتي والتجأنا إلى الله وأمضينا ليلتنا بمسجد الصوافين، في الصباح عدت إلى شقتي، سألت زوجتي هل سأل عنَّي أحد. لم تجبني، لكنها أرسلت ما لديَّ من كراتين الكتبٍ والكراسات إلى أمي، فما كان من أمي إلا أن حملتها إلى فرن جدتي لتكون طعامًا ليوم خبيزها، فقدت ذخيرتي لمجرد شائعة خوفٍ أن الأمن يطاردني.

انقطعت علاقتي بالشعر بعد لقاء خالد محيي الدين، أغسطس عام ١٩٨٠ سافرتُ إلى اليمن للعمل مدرسًا للفلسفة وفي صنعاء الجميلة التقيت عبد العزيز المقالح بالمركز الثقافي اليمني، كان  لقاءً عابرًا استمعت إلى أدائه الهادئ، كان شاعرًا دمث الأخلاق، محبًا لمصر وللمصريين.

 تقدمت للعمل معدًا برامج بالإذاعة اليمنية، تقدم كثيرون مصريون وسوريون وفلسطينيون، وقع الاختيار عليَّ بعد اختبار تحريري ولم يتبق سوى المقابلة الشخصية، قابلت يحيى النونو المشرف على اختباراتنا، طلب مني إعداد برنامج في ستة سطور، فكان "حكم وأمثال" واخترتُ مثلًا يمنيًا "ما تحرق النار إلا رجل واطيها"، شبيه مثلنا المصري ما تحرق النار إلا اللي كابشها، سألني مدير الإذاعة والتلفزيون آنذاك، لا أذكر اسمه لكنه كان خريج كلية التربية جامعة عين شمس، عن اسم عميد الكلية سنة تخرجي، فذكرت العميد السابق عليه قدري لطفي، فلم أوفق في الالتحاق بوظيفة معد البرامج.

حسبت أن خطاب تعييني مدرسًا سيكون بصنعاء، غير أنه كان بمحافظة الحديدة بمدرسة باجل الثانوية المشتركة، وانتهت علاقتي بالشعر تماما في باجل حيث تحول اهتمامي إلى التدريس وجلسات المقيل، عدت من باجل، أمضيت الإجازة مع ابني أحمد وزوجتي، غير أن أصدقاء كثر أكدوا أن بالعراق حتى لو لم تعمل فسوف يكون لك الحق في تحويل نسبة محددة من الدولارات، فكانت رحلتي الثانية العراق محافظة واسط، ذهبت أول يوم ذهبت لصلاة العصر فإذا بها تباغتني بنشوة صوتها إيش لونك يامصري. لم أدر ماذا أقول فلم أتمكن بعد من اللهجة العراقية، قلت لها أهليييييين. لم يُمح صوتها النشوان من نفسي حتى وأنا في الصلاة، فاستغفرت الله واستعذت من الشيطان، في الصباح ذهبت والزملاء لتقديم أوراق تعيننا بمدارس محافظة واسط، فكان قدري أن أقوم بتدريس اللغة الإنجليزية بمدرسة السويس الابتدائية بقضاء الحي، لا مجال للشعر في هذه الفترة سوى أغنيات باللهجة العراقية احتفالًا بميلاد صدام حسين وتكوين حزب البعث العربي، عامان دراسيان بالعراق، اطلعت خلالها على بدر شاكر السياب وصادفت بلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف وغيرهم بمجلة آفاق عربية، عادت صلتي بالشعر قراءة وعرفت قدماي الطريق إلى معرض الكتاب فاقتنيت الأعمال الكاملة لصلاح عبدالصبور وتعرفت أحمد عبدالمعطي حجازي وإن اختلفت معه في موقفه من قصيدة النثر متسائلًا بدهشة ألا تشبه الليلة البارحة ألم تقف الآن موقف العقاد من قصيدة التفعيلة.

عدت إلى اليمن مرة أخرى في العام الدراسي ٨٤ /٨٥ بتعاقد خارجي للتدريس بمعهد المعلمين بخولان، وفي العام ٨٥ / ٨٦  بمدرسة خالد بن الوليد الابتدائية الإعدادية، وكان من بين تلاميذي بالصف الأول الابتدائي ابني أحمد، في العام ٨٦/ ٨٧ درست اللغة العربية للصفين الثاني والثالث الإعدادي وأنا غير المتخصص لكنها قناعة مدير المدرسة علي سعد محمد، وفي العام الدراسي ٨٨/  ٨٩ انتقلت إلى مدرسة بن ماجد الثانوية لتدريس الفلسفة، فكانت شهرتي بين مديري المدارس الثانوية، الأمر الذي جعل لطفية حمزة مديرة مدرسة أروى الثانوية للبنات تطلبني بالاسم من مدير التربية بأمانة العاصمة، فكان العام الدراسي ٨٩ / ٩٠ بداية عملبي بمدرسة أروى الثانوية للبنات؛ ليحدث بعد ثلاث سنوات ما جعلني أكتب الشعر من جديد دون اهتمام بالشكل، لكن الموضوع واحد.

 مرت السنون كأي شيء عادي، ذاعت شهرتي كمدرس للفلسفة لدرجة أني دخلت بيوت علية القوم في صنعاء، وفي ظهيرة يوم ربيعي بعد خروجي من الفصل استوقفتني وألقت في وجهي باقة ورد، وقالت مسقطة ما تقوله عليّ كأنها قرأت كتابي المفتوح ومعاناتي ورغبتي في الكتابة، أستاذ أنت تُحبني. لم أقل شيئا بل كانت القصيدة تفتح الباب لقصيدة أخرى، وكانت جريدة الثورة اليمنية شاهد عيان عن هذا المكنون الذي ما فعلت "فِعال" سوى أن ألهمتني.

 عدت إلى بلدتي بعد اغتراب طال، ترقيت في الوظائف من مدرس أول فلسفة إلى موجه ثم موجه أول، والتحقت بجهاز التفتيش والمتابعة بمكتب وزير التربية والتعليم عام ٢٠٠١، حتى خرجت إلى التقاعد عام ٢٠١١، في تلك المرحلة السابقة انقطعت علاقتي بالشعر مرة أخرى، لكن في مساء ليلة تبللها زخات مطر خفيفة وكنت قد اشتريت لابتوب، بالصدفة البحتة وجدتها، دخلت إلى صفحتها تعثرت بسؤالها..

أطيفه قل

أما زلت نبضة في هواه؟

وكغرٍ ساذج قلت لها معلقًا مازلت يا فِعال، لكنها في رسالة على الخاص تعاتبني، فقد أصبحت زوجة محبة لزوجها وأمًا لأطفال ثلاثة ولها من الأصدقاء من هم مشتركون بيننا، لم أرتدع وتدفقت القصائد، أنشرها مباشرة بصفحتها، فقامت بحظري فزادت قصائدي وتضمنت دواويني حتي رابعها (أتسكع في بستان ذاكرتي) الذي يصدر قريبًا عن دار كيميت نصوصًا لها وقبله (أنتظر خارج الوقت) فشكرًا فِعال شكرًا، لم تعيديني إليكِ بل أعدتيني إلى الشعر محبوبي، واستمرت علاقتي به التي لم يستطع أحد حظري ولا الوقيعة بيني وبينه فحضرت فعاليات هنا وهناك، وها أنا أسير معه إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا، تلك قصتي مع الشعر الذي أحببته وإن كنت أغيب عنه لظروف ما، فهو يعتمل في جوانحي ليخرج إليكم عاريًا بلا أقنعة.

سلام يا حسن حتى نلتقي اللقاء الأخير

.......

محمود أبو عيشة

0 التعليقات:

إرسال تعليق